في «فوضى» الايديولوجيا…!

في «فوضى» الايديولوجيا…!

  • ١٣ تموز ٢٠٢٤
  • كاسندرا حمادة

عندما قال لينين «من بين كل الفنون، السينما هي الفن الأهم بالنسبة لنا»، دلّ على قوّة الصورة المتحرّكة في مجال الأيديولوجيا والسياسة. في خطّة نفسية ذكية، تطبع مشاهد الأفلام والمسلسلات في عقل الجمهور ، ليتسرّب منها ما هو وراء الشاشة: التخطيط للترويج الأيدولوجي. على غرار ذلك، مسلسل «فوضى» الذي قبل المعايير. تعاطف الجمهور مع البطل اليهودي دورون، كما هو الحال في الحبكات الدرامية المألوفة.. يا لها من فوضى في الأفكار!

 
ما هي الأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة، إلا نسق كلّي، يسمّى «الأيدولوجيا».

 

بين الأيديولوجيا والشاشة «عصا سحرية»

تفسّر الأيدولوجيا الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي، الذي نقوم بها، والأهم أنّها تعمل على توجيهه. ولهذا  النسق قدرة على إضفاء المشروعية على النظام القائم والدفاع عنه، من خلال الترويج  الذكي عبر أهم الأجهزة الثقافية «الإنتاج الفيلمي». وعلى الرغم من أنّ الأيدولوجيا تساهم في عملية الإصلاح الإجتماعي، قد تخلق وعي زائف خاصة لذلك الذي يشاهد ولا يبصر. 

إذا كنت من محبّي أفلام المخابرات والإثارة، تغزو عقلك صور ومشاهد الأبطال، في الأفلام البوليسية الكبيرة، وبسرعة البرق تلمع في عقلك الأفكار التي تقدّمها الأيدولوجيات الكبيرة، مما يصعب عليك القبض على واقعة الأمور، فلا يثبت في الذهن إلّا ما أراد المخرج أيصاله بعصاه السحرية عبر الشاشة. 
وفي الحقيقية تبدأ العصا السحرية من مكانة سياسية، وعندما تجتمع السلطة بالفن، تطلق العنان لحكم العالم. 

«هوليوود» إمبراطورية التحيّز
انطلاقاً من هنا، المشكلة التي تطرحها السينما الأيديولوجية هي أنّه يصعب فيها أحياناً القبض عن التقاطعات بين الأيديولوجي والسياسي مع الفني والجمالي، مع العلم أنّ السينما الهوليوودية هي أكبر السينمات في العالم أيديولوجية، إذ هي بحكم موقعها السياسي القوي تعمل دائماً على أن تكون في واجهة الحدث الفني. 
وفي كتاب الأميركي نيل غابلر «هوليوود إمبراطورية اليهود»، تزامنت بدايات ظهور السينما في العالم مع حركة الهجرة الموسعة للجماعات اليهودية إلى الولايات المتحدة، لذلك ينحدر اليوم من هوليوود أهم المخرجين اليهود، وليس خفياً مدى النجاح الذين حقّقوه في نشر الخيال على امتداد العالم، فقد اخترع هؤلاء مجموعة من الصور ة والأفكار، استحوذوا بها على الخيال الأميركي، وأثبتوا أنّ  الثقافة والفن سلاح لا يهزم للإحتلال والسيطرة. ونذكر من أهم المنتجين «ديفيد سلزنيك» «صمويل غولدوين» «نيكولاس شنيك». 

فوضى.. مسلسل إسرائيلي لقلب المعايير!
وذلك ينعكس اليوم في الإنتاجات المستحدثة. إذ، يتطلّب الأمر قوة هائلة من الإرادة لتمييز مشاعرك عن تلك التي يمليها عليك صناع مسلسل مثل فوضى، أو أي فيلم أو مسلسل جيّد الصنع، وهنا تكمن القدرة في الترويج الأيديولوجي أو خلق البروباغاندا السياسية. 
إذا تطرّقنا إلى قصّة مسلسل فوضى، فهو عبارة عن فرقة إسرائيلية سرية لمكافحة الإرهاب تعمل إلى حد كبير في الأراضي المحتلة، من أجل تعقب الإرهابيين المشتبه بهم، يتظاهر الجنود الناطقون باللغة العربية، في وحدة من الجيش الإسرائيلي (المستعربون) بأنّهم مدنيون فلسطينيون.
فقد أنشأ هؤلاء عبر شخصيات وأحداث مسلسل فوضى، تمثيلات ثقافية، تسهّل تواطؤ الجماهير مع العنف، الذي يستهلكونه عبر منطق عاطفي معيّن. 
الخوف، الإنهزام الثأر، على هذه السردية من المشاعر المفتعلة لدى المتلقّي، بنيت مشاهد مسلسل فوضى المصنّف أكثر مشاهدة في العالم العربي، وإسرائيل على منصّة «نتنفلكس». 

تعاطف وإثارة.. أين الواقع؟ 
من خلال هذا المسلسل، استخدمت إسرائيل الصورة السيميولوجية، وصنّفت العربي الفلسطيني «عميل دائم» ، وقَبلُها المُشاهد، إذ إنّه بطبيعة الحال المخابرات الذكية هي التي تعمل على هذا الوتر الحسّاس. وكان الإخراج الفيلمي مبني على  تجارب الرجال الفلسطينيين الذين يتعاونون أو يشتبه في تعاونهم مع إسرائيل، فيما تجارب النساء المتعاونات كانت أقل وضوحًا في الثقافة الشعبية.  

على سبيل المثال، استخدم شخصية غابي أيوب وهو عنصر آخر من  الأمن الإسرائيلي، التلاعب العاطفي لإقناع علي مقاتل المقاومة الفلسطينية بأن يصبح مخبراً مقابل إجراء عملية جراحية لإنقاذ حياة ابنته يظهر التواطوء العاطفي رغماً عنه.
وفي مشاهد عدّة، يظهر «دورون»، وهو أحد أعضاء الفرقة الأب العاطفي، الحنون، على عكس الشخصيات القاسية من حماس  التي يظهرها المسلسل تضحي بالأطفال. 
ومع الوقت يتعرّض دورون لصدمة نفسية، بسبب ظروف الحرب، ما يحوّل  في عين المشاهد صورة المجرم إلى ضحية. 
إلى ذلك، يأتي«فوضى» بمثابة تبرير كئيب لحرب إسرائيل المتواصلة على الفلسطينيين، وهي حرب يتلاعب صناع المسلسل من خلال حذف السياسة من المعادلة، فيضيع القاتل والمعتدي ويتلهى المشاهد بمشاهد الدراما والإثارة، ويتعاطف مع القتلة، وينسى الواقع الخفي وراء الشاشة.  

هذه القدرة على أخذك إلى حيث لا تريد أن تذهب وتجعلك تشعر بما لا تفضل أن تشعر به هو السبب الذي جعل لينين يطلق على االسينما والأعمال البصرية لقب «الفن الأكثر أهمية».
وبالمحصّلة، إنّ استحواذ الحركة الصهيونية على الثقافة عبر الأفلام، يعدّ وسيلة أشد فتكاً من السلاح الدموي نفسه، ولو اهتم العرب بهذها الثقافة قليلاً، وفهموا أهمية الربط بين الثقافة الشعبية والأفلام، لكان لهم امبراطورية قوية تُظّهر قضاياهم العادلة، في وجه تروّيج الإيديولوجيا المقابلة المتحكّمة في العالم..!