الجميزة: الذاكرة الحلوة في مواجهة الخراب
الجميزة: الذاكرة الحلوة في مواجهة الخراب
على هذا الدرج العتيق، في منطقة الجميزة، لفتت الجدران الملّونة الكثير من المارة، من كل حدب وصوب. في الليل، يحمل هؤلاء صخب بيروت، وفي النهار، أعمال وأفكار تعكس إبداع اللبناني. وبين التاريخ والحاضر، لم تنادِ الجميزة أبناءها إلا وسارع هؤلاء لإنقاذها، وكان النداء الأصعب، يوم 4 آب 2020.
تتأرجح الجميزة بين الخراب والزمن العريق، فهي في الخراب والإهتراء جميلة، في مبانيها التراثية المتداعية، والشباب الذين حملوا المكانس بحركة هستيرية بالمعنى الإيجابي نكاية بالإغتيال لإزالة الزجاج المتناثر عن أرصفتها وبيوتها ومحالها. فقد حلّت الكارثة الأكبر على بيروت يوم 4 أب، وكانت منطقة الجميزة مسرحاً للخراب والدمار. وسرعان ما تجمّع الشباب مساء ذلك اليوم المشؤوم ليزيلوا الدمار عن طرقاتها، كما الحال في كل أنحاء المدينة.
ولو أنّ ذكريات الحطام وصوت الإنفجار أقوى، لما نجت الجميزة من الحرب الأهلية وما زالت تنجو من الضربات المتلاحقة، فماذا تذكرون من زمنها الجميل؟
الجميزة قبل قرون
في خمسينيات القرن الماضي، كانت الجمّيزة أشبه بقرية بحرية هادئة تجاور البحر تدلّ عليها بعض المباني التاريخية المهملة مع حدائقها المهجورة وأسماء الشوارع دليل حي على ذلك. ومن تلك الأحياء، البيارة، باللهجة البيروتية لوجود عدد من آبار الماء في المنطقة، كما تعود تسميتها إلى شجرة الجميز الكبيرة التي كانت منتشرة في المنطقة.
قهوة الجميزة
يحكى في إحدى الروايات، عن أحد أقدم مالكي مقاهي الجميزة ، وهو رجل يدعى الأسطى باز، كان يجلس تحت شجرة الجميزة. وفي يوم من الأيام، اقترب منه أحد أفراد عائلة الصمدي، واقترح عليه فتح مقهى ، فوافق الباز وقال له: «كلمة الرجل سنده»، ومن هنا تأسست قهوة الجميزة.
أعوام الإزدهار..
وبالعودة إلى عام1845 ، عندما تم افتتاح خط سكة الحديد بين بيروت ودمشق، مروراً بالجميزة أثّر بشكل كبير على تنمية المنطقة. وكان هناك خط ترام يمر أيضًا عبر الجميزة، مما جعل المنطقة طريقًا رئيسيًا لأولئك الذين يسافرون شمالًا. هذه العوامل مجتمعة أدت إلى فترة ازدهار للمنطقة، وانعكس هذا الإزدهار بشكل ملحوظ على حياة سكان الجميزة، فاكتسب الكثير من الناس في المنطقة ثروات كبيرة، مما دفعهم إلى الانتقال للسكن الأشرفية، حيث أجّروا منازلهم في الجميزة للنازحين من الجبال.
بيت التراث والحاضر
تشمل الجميزة منازل من العصر العثماني، تمّ بناء الكثير منها لنخبة رجال الأعمال في المدينة في القرن التاسع عشر، فضلاً عن المباني التي بنيت إبان الانتداب الفرنسي في لبنان من حيث الهندسة المعمارية الحديثة. وتتبع العديد من واجهات هذه المباني الطراز البيروتي المميز الذي يدمج ثلاثة خلجان مقوّسة في الطوابق العليا، غالبًا ما تكون مفصولة بأعمدة رخامية وتحجب قاعة مركزية كبيرة خلفها.
ومن أحد الشوارع الي تصلك إلى درج الفن ، حي غورو وقد سميّ الشارع عام 1926 نسبة الى الجنرال الفرنسي غورو الذي كان يقطن في إحدى عماراته، أيام الانتداب الفرنسي على لبنان. أما العمارات والمباني التي يعجّ بها الشارع، فقد شيدت بين عامي 1850 و1900 وكانت لا تزيد عن الطابقين منها محلات تجارية ومنازل شعبية، أضفت على المنطقة أجواء بيروت الاصيلة.
وفي السنوات الأخيرة، يفتقد السكان القدامى، لصوت الصفارات التي كانت تملأ مرفأ بيروت القريب من شارع غورو.
معالم التراث تبقى؟
اليوم، كل زاوية في الجميزة، لها هويتها الخاصة، من درج مار نقولا الفنّي(درج الفن) إلى شرفات المنازل المطلّة. هذه النفخة التراثية المتمثّلة ببيوت الجميزة، تعود إلى تراث قديم يحاكي حكايات وعوامل كثيرة انعكست على معالمها العمرانية.
صمدت المنطقة على الرغم من الحروب التي عرفتها بيروت، وطالت منطقة الجميزة، كونها امتداد لعدّة مناطق مهمّة في بيروت، الصيفي، المدوّر، رميل، المرفأ…
وبعد الكارثة التي حلّت على تلك المدينة يوم الرابع من آب، اهتمّت العديد من جمعيات المجتمع المدني بملفات عدّة، وندلّ اليوم على نقطة مهمة وهي تأهيل التراث، إذ لا مستقبل لمدينة دون ماضٍ لها.
ولكن التحديات كثيرة لحماية وإعادة تأهيل النسيج التراثي العمراني، وقد استندت الأفكار على رؤى ومنهجيات واستراتيجيات للمحافظة على التراث العمراني، بالدعوة الى أولوية وجود سياسة رسمية للدولة اللبنانية حول أهمية وجدوى التراث في حياة اللبنانيين الاجتماعية والاقتصادية، كما واعتباره أحد المرجعيات الأساسية في تحديد هوية لبنان الجامعة.
فهل يبقى تراث بيروت متفيئاً تحت ظلال الجميزة؟