«لا تتركوا الأرض عارية، فإنّ آباؤكم رأوها خضراء عندما جاؤوا»- بوذا
القصة بدأت مع مجموعة من الناشطين الاجتماعيين والبيئين في ثمانينات القرن الماضي في بشري شمال لبنان، في خضم الحرب الأهلية، فكانت لديهم رؤية عميقة للماضي، وإدراك تام لتعقيدات الحاضر، وإيمان بالمستقبل. وريادتهم أنّهم آمنوا بقدرة الأفراد على إحداث فرق عبر أطول مدة زمنية لمشروع بيئي مستدام في لبنان. وربما تراءى المشروع حينها للبعض عبثياً، ولا يندرج في سلم الأولويات نظراً للظروف المحيطة آنذاك. غير أنّ القائمين عليه كانت لهم نظرة إستشرافية للمستقبل،وما سيتركونه للأجيال القادمة. فتطور ليتخذ تنظيماً مؤسسياً رسمياً تحت إسم «لجنة أصدقاء غابة الأرز». وفي الوقت الذي لم نكن نسمع فيه إلا صوت شجرة تشيخ أو تسقط، كانت هناك غابة تنمو بهدوء واصرار، لكي تبقى هذه الغابة دوماً وثيقة مادية ملموسة ومرئية لحضور لبنان عبر الزمن.
الصورة عن موقع لجنة اصدقاء غابة الأرز
الخامس عشر من أيلول من كل سنة هو يوم مخصص لزيارة «غابة أصدقاء أرز لبنان» أو زيارة العرابين للأرزة المزروعة بإسمهم ، وهذه السنة تحتفل «لجنةأصدقاء غابة الأرز»، بمرور 25 عامًا على إطلاق مشروع غابة العرابين، الذي بدأ عام 1999، وبدأ الإحتفال به منذ العام 2005. يعكس هذا المشروع التزامًا عميقًا بالحفاظ على التراث البيئي للبنان وحماية غابة «أرز الرّب» أسفل جبل المكمل وفي أعالى جبة بشري ووادي قاديشا، وهي أقدم غابة معروفة حتى اليوم لشجر الأرز اللبناني أو «سيدروس ليباني» في اللاتينية، و«كيدروس» في اليونانية القديمة . وقد أصبح المشروع نموذجًا يُحتذى به للتعاون بين الأفرادوالمؤسسات، في سبيل تعزيز استدامة البيئة اللبنانية.
الغابة القديمة
غابة أرز الرب في بشري، التي تُعَدُّ معجزة طبيعية تعاند الزمن لتبقى مستمرة،.
تحوي 403 أشجار، منها سبع أشجار عمرها يقدر فوق 2000 سنة والغالبية الأخرى تقارب أعمارها الألف سنة،ومساحتها 102566م2، محاطة بسور دائري مبنيٌّ من الحجر منذ سنة 1870، يبلغ محيطه 3220م، وترتفع عن سطح البحر 1800م.
إكتسبت رمزية وطنية وثقافية وتاريخية فضلاً عن إرتباطها بالمقدس في الثقافة الشعبية ، و بتاريخ لبنان العريق.
وقد احتلت شجرة الأرز مكانة بارزة في الحضارات القديمة، حيث استخدم خشبها في بناء الهياكل منذ الألف الثالث قبل الميلاد. وفي الكتاب المقدس ذكرت مرات عديدة، وفي ملحمة غلغامش اعتبر الأرز اللبناني ملكاً للآلهة، حيث خمبابا الشخصية الأسطورية يطلق عليه صفة حارس الأرز، ناهيك عن الأرز في الأدب اللبناني والقصائد والغناء، والطقوس الدينية فالعذراء مريم تشبّه بأرزة لبنان.ونظراً لفرادتها أدرجتها الأونسكوعلى لائحة التراث العالمي للإنسانية بصفتها معلماً ثقافياً وطبيعياً إستثنائياً.
البدايات
في سنة 1985 ، كانت الغابة قد وصلت الى مرحلة متقدمة من التدهور البيئي ومهددة باليباس بفعل التلوث وتدهور الغطاء النباتي، وباتت معزولة بيئياً في محيط متصحر.
مع «لجنة أصدقاء غابة الأرز» بدأت الغابة عهدًا جديدًا من الحماية والتجدد، حيث أطلقت مبادرة لإنقاذها من التدهور البيئي، بالتعاون مع مؤسسات ومختبرات محلية ودولية، وفق خطط علمية طويلة الامد، وللحفاظ على هويتها الثقافية والتاريخية والسياحية معاً.ولتبدو الجبال المحيطة بها بعد سنوات مكسوة بالاشجار كما ذكرت في الكتابات القديمة.
فانطلقت اللجنة في مشروع طموح لإعادة تأهيل الغابة، تضمن مراحل عديدة أولها حماية الغابة من التعرية والتصحر، وتوسيع الغطاء النباتي في محيطها وإزالة المخالفات ، وتجهيز منشآت للحماية وممرات مخصصة للزوار، والعمل على استصدار التشريعات التي تؤكد على الحماية المادية والفنية والطبيعية للغابة ومحيطها وأرضها وفضائها عبر نصوص تعين الممنوعات والمحظورات محددة وسائل التعامل مع الغابة وكيفية زيارتها. وترميم السور لمنع الرعي والزيارات العشوائية، ونشر الوعي البيئي، وإنشاء مشتل لتوليد شتول الأرز بما يقارب 25000 شتلة سنوياً.
مشاتل الأرز الصورة عن موقع لجنة أصدقاء غابة الأرز
الغابات الحديثة و قصة يوم العراب: حماية غابة الأرز والإحتفاء بالروابط الروحية
لقد تطور المشروع ليشمل فكرة «العراب»وسمي «غابة أصدقاء أرز لبنان» في عام 1999، وقد بدا حينها حلمًا بعيد المنال بسبب التكاليف المرتفعة.
و«يوم العراب» في 15 أيلول يُحتفل به تكريمًا لهذه الجهود، في دلالة واضحة على الشراكة بين المجتمع والمؤسسة في الحفاظ على هذا الكنز الطبيعي.
تقوم فكرة «العراب» على إشراك الناس من مختلف أنحاء العالم دون تمييز في دعم المشروع من خلال تبني أشجار الأرز وزرعها بأسمائهم، ليصبحوا «عرابين» لهذه الأشجار. انطلق الإحتفال «بيوم العراب» السنوي عام 2005 لتكريم هؤلاء العرابين وتعزيز العلاقة بينهم وبين الغابة التي ساهموا في حمايتها.
بسام جعجع المؤسس وأمين سر جمعية أصدقاء غابة الأرز – بشري حالياً
أكّد لـ«بيروت تايم»، أنّ مشروع العرابين شهد إقبالاً ملحوظًا منذ انطلاقه. ففي نهاية العام 2023 بلغ عدد العرابين الأفراد 3412 عراباً ، بزيادة قدرها 138 عرابًا هذا العام، بمتوسط عراب جديد كل يومين تقريبًا. من جنسيات مختلفة، مع غالبية من اللبنانيين.
الصورة عن موقع لجنة أصدقاء غابة الأرز
وبالنسبة للعرابين من المؤسسات، أشار جعجع إلى أنّ بعض المؤسسات الكبيرة ساهمت بفعالية في المشروع، مثل مؤسسة ألفريدو حرب حلو التي زرعت 47000 شجرة أرز. كما ساهمت جمعيات أخرى، مثل غابة المرأة، بنك البحر المتوسط، USAID، UNDP، Sanita، وغابة القديسة مريم، غيرها، في تشجير آلاف الأشجار، مضيفًا أنّ هذه الشراكات تعزّز إستدامة المشروع.
وعن التحديات التي تواجه الغابة، أوضح جعجع أنّ غابة «أرز الرب»، التي تقع على ارتفاع 1800 متر عن سطح البحر، تواجه أمراضًا تؤثر على الصنوبريات، وتزداد مع التغيرات المناخية، والتي تؤدي إلى انتشار الحشرات المسببة لهذه الأمراض. لمواجهة هذه التحديات، هناك فريق متخصص يتابع حالة الغابة بالتعاون مع مختبرات الجامعة اللبنانية وجامعة الروح القدس في الكسليك، ويتم اتخاذ التدابير اللازمة بناءً على الفحوصات السنوية التي تصدر عادة في أوائل تشرين الأول.
وأضاف جعجع أنّ مشروع العرابين يعكس التزام الأفراد والجمعيات بحماية غابة الأرز، حيث يساهم العراب بمبلغ رمزي قدره 100 دولار لكل شجرة. ومع أنّ هذا المبلغ يعتبر بسيطًا مقارنة بحجم الدعم المؤسسي، إلا أن قيمته تكمن في الدعم المعنوي والمستمر.
كما أشار إلى خطط مستقبلية لتوسيع المشروع، مع إمكانية وصول عدد العرابين إلى 600000، مؤكدًا أن هؤلاء العرابين سيصبحون أعضاء في جمعية أصدقاء غابة الأرز، مما سيضمن استمرار جهود تشجير الغابة وحمايتها.
وقد وصل عدد الأرزات المزروعة المستمرة في النمو(إذ إن نسبة موت الشتول32 ٪ فيعاد زراعتها) في «غابة أصدقاء أرز لبنان» الى 169،802 أرزة على مساحة تجاوزت 500 هكتار تعود ملكيتها الى بلدية بشري. وموزعة على 43 جنسية حول العالم. إضافة الى 13098 أرزة في القمم المحيطة بمنطقة الأرز.والتمويل وفق ما جاء في كتيب للجنة «نجحت اللجنة بإنجاز أكبر مشروع تشجير في لبنان مموّل ذاتياً من دون أي مساعدة حكومية أو رسمية أو حزبية أو سياسية، وبقينا على مسافة من الجميع دون أي تفاعل سلبي..»
مواقع التحريج الصورة عن موقع لجنة أصدقاء غابة الأرز
بشير مارون، عضو لجنة أصدقاء غابة الأرز والأستاذ المحاضر في جامعة سيدة اللويزة ، قال إنّ العمل على إعادة الأرز الى هذه الجبال بالنسبة إليه ليس مجرد عمل زراعي أو توسيع مساحات خضراء بحت،. فالأرز يشكل جزءًا من تاريخه الشخصي وهويته وذاكرته،ويحلم دائماً أن يرى الجبال مكسوة بالأشجار، فهو من محترفي المشي في الجرود ، يعرف كل أرزة بمفردها ويراقب نموها ومسيرتها في حاضرها وما ستؤول اليه مستقبلاً، وسط هذه الطبيعة القاسية، وأنّ الإهتمام بالبيئة المحيطة هو جزء من المصافحة الودية بين الإنسان والمخلوقات والخالق وطريق الى السلام الداخلي. و تطوعه مع اللجنة هو بهدف الإنخراط في آلية واقعية وعلمية في إنجاز هذا الحلم، وقد عبر عن قناعته أنّ كلّ مساهمة ومبادرة مدروسة بإمكانها أن تحدث فرقاً إيجابياً.
أما مشروع العرابين، فأشار مارون إلى أهميته الوطنية والبيئية قائلاً: «إنّه مشروع وطني كبير، يعزز الهوية الوطنية والشراكة بين اللبنانيين من مختلف الخلفيات والإنتماءات». مضيفاً أنّ «اللجنة تعمل أيضاً على مشروع القمم الذي يسعى لربط غابات الأرز في لبنان، مثل أرز بشري وتنورين و إهدن، على امتداد جبل المكمل، مما يضيف قيمة بيئية ووطنية كبيرة ما يعني أنّه سيمتد على مدى سنوات، خاصة أنّ اللجنة بدأت زراعة غابات فوق 2000 م وهي تجربة شجاعة نظراً لقساوة المناخ ، ونجاح المشروع سيساهم في حماية القمم ومصادر المياه، وتدعيم استدامة الموارد والموائل الطبيعية، واعادة ترشيد السياحة الريفية ».
للعرابين كلمتهم
ماري الحتي غريشة عميدة العرابين، وعرابة أول أرزة في العام 1999 جمعت أولادها وأشقاءها ووهبتهم أرزة. «أبي اخذ الارزة وزرعها في البرازيل وكان يملك جريدة إسمها :ارزة لبنان»
وأضافت «أنا أقدم هدية شجرة الارز عند الموت وعند الولادة كونهما مرتبطين بالزمن والارز هو من أحد الاشجار الذي يتحدى الزمن باستمراره وصلابته. فشجرة الارز موجودة من حوالي ٣٠٠٠ سنة قبل المسيح ». وقالت نجاة بيطار «أنا عرابة بكل فخر لخمسة عشر أرزة، أشعر فيهم في قلبي وأزورهم كل سنة لأنّها جزء من عائلتي». وقال أحد العرابين «هذه رسالة للعالم باكمله، جذورنا وجذور أولادنا ستكون أقوى من جذور الأرز حتى نتمكن من البقاء في لبنان ونواصل حياتنا ويظل أولادنا يتحدثون عن الأرز »
العرابون الصورة عن موقع لجنة أصدقاء غابة الأرز