الإسلام السياسي: إنهيار مديد وعقدة الشخصيّة
الإسلام السياسي: إنهيار مديد وعقدة الشخصيّة
الإسلام السياسي يحتضر، فهل سيستسلم أم سيتمادى بالعنف لتغطية خسائره؟ هل سيقودنا فراغه نحو الديمقراطية أم الفوضى؟
لم تكن السلطة مفهومًا واصطلاحًا نقطة تتبلور مع دخول الأديان وأحكامها إلى العقل الإنساني وسلوكه، فمنذ إقدام قابيل على قتل شقيقه بدأ مفهوم السلطة يتّخذ طابعًا سياسيًّا يتخطّى الرغبة بالبقاء نحو الرغبة بالسيطرة، والحقّ أنّ هذه المفهوم المتطوّر دخل العصر الحديث من بوابة عقائديّة أيديولوجيّة، فمع دخول نابليون بونابرت الى مصر عام 1798 وتسلّحه بالخطاب المبني على التسامي والأمان بالإضافة إلى الحملة العسكريّة التي استغرقت ثلاث سنوات صارت الجماعات تبحث عن القائد القوي لتصفه بالعاقل وتعزّز تبعيتها الأيديولوجيّة لا بل تطرّفها لهذه الأيديولوجيا، لينعكس ذلك عربيًّا منذ صعود جماعة الإخوان المسلمين وما بناه زعيم التنظيم الشيخ حسن البنا أيديولوجيًّا من أفكار تلوّح بصحوة إسلاميّة، وقد آثر البنا في أيّامه الأخيرة الإبتعاد عن التطرّف والتقديس لهذه الهالة والتفكير ببعد مدنيّ لدولته الإسلاميّة ليكون مصيره القتل بعمليّة مخابرتيه سبقها إنسلاخ ثلّة من الأفراد الاخوانيين.
هذه المشهديّات التاريخيّة يراد من طرحها، مقاربة ما نشهده اليوم من إقصاء لقادة إسلاميين في العالم العربي بدءًا من رئيس حركة حماس إسماعيل هنيّة وخلفه يحيى السنوار، وأمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله وخليفته المحتمل هاشم صفي الدين وما تبعه من همود جماهيري إثر تعيين الشيخ نعيم قاسم خلفًا لنصرالله، لتوّلد الحرب الاسرائيليّة السابعة على لبنان والتي مهّدت لها هذه الإغتيالات السؤال التالي: كيف بدأ الاسلام السياسي بصورته الحاليّة وإلى أي حد ما زال الجمهور تحت رحمة الشخصيّة ؟
الإنهيار المديد منذ الإنطلاقة
في كتابه «تأمّلات في شقاء العرب» الصادر عن دار النهار عام 2005 باللغة العربيّة، تطرّق الأكاديمي والصحفي الشهيد سمير قصير لفكرة الهروب الفردي، أي الخروج عن النطاق الجماهيري، وقد ربط هذا السياق بسلسلة سياقات تحليليّة أوصلتنا إلى أنّ الاسلام السياسي لا يمكنه أن يكون المنقذ من الشقاء، واذا أردنا تسويغ الفكرة الأخيرة يمكننا الإنطلاق من ثلاثة أسباب على الأقلّ:
أوّلًا: الأحاديّة، فاتخاذ الأفكار والأحكام الدينية الاسلاميّة سلّمًا لبناء مشروع سياسي قد ينقلب حكمًا إلى حكم أحاديّ توتاليتاري متفرّد يحرّض الشعوب على الثورة أو الاحتجاج والبحث عن التعدديّة والحال حصل في دول عديدة منذ عام 2011 آخرها في لبنان عام 2019 حين برز حجم الإحتجاج في جنوب لبنان ضد الإسلام السياسي المتمثل بوجود حزب الله كتنظيم مسلّح يتلطى خلف حليفه الشيعي حركة أمل.
ثانيًا: الإتباع المتمثل باقتباس العقد الإجتماعي من الكتب الدينيّة. وثالثًا تقديس الشخصيّة وهو تناص سلوكي جماهيري يتقاطع مع واقعة وفاة النبي وتأليهه من قبل بعض المسلمين.
عوامل ثلاثة تضاف اليها خرافات وأساطير عن مقاتلة الملائكة الى جانب زعيم حماس يحيى السنوار وجنود نصرالله عام 2006 هذه الأساطير والحكايا الخرافيّة تسقط اليوم بمطرقة الواقع، تمنيتُ لو نجح الربيع العربي بدءًا من عام 2012 في إطاحة الإسلام السياسي، لكنّه للأسف عمّق بتداعياته السياسيّة والتسوويّة وجود هذا النهج السياسي الذي أثبت فشله الذريع في الشرق الأوسط واليوم يلسع نفسه كالعقرب لأنّه يردد خطابًا ينمّ عن إنكار الضعف ورفض النقد الذاتي والغيري. باختصار جماهير الإسلام السياسي اليوم يتسلقون ما يعرف في علم النفس ب «سلّم كيوبلر روس»: الإنكار ومن ثم الغضب، المساومة، الإكتئاب والقبول»، واليوم بعد اغتيال قادتهم وصلوا إلى درجة الغضب في السلم .
إضطراب تقديس الشخصيّة والفوضى
بعد اغتيال حسن البنا، لوحظ اتباع عاطفي عميق من قبل جمهور جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي لأفكار سيّد قطب الذي حُكم عليه بالإعدام عام 1966 وانتظر هذا الجمهور المؤدلج صعود الشيخ متولّي شعراوي ومحمد راتب نابلسي والقرضاوي للتلذّذ بتقديس التراث بعد ترنّح مصطفى محمود بين محاربة الغرب ومحاباته.
وفي أيّامنا هذه أظهرت إغتيالات زعماء حماس المتتالية الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتسي، التي تلاها بعد عشرين عاماً إغتيال إسماعيل هنيّة ومن ثم يحيى السنوار، أنّ التنظيمات السياسيّة الإسلاميّة المستهدفة من قبل إسرائيل لا تزال تختار اللعب بنفس الورقة، ورقة الشخصيّة الكارزميّة، وهو ما يفقدها حسّ التواصل والإقناع المستدام تجاه جمهورها.
الحال نفسه ترجم مع إغتيال نصرالله وصفي الدين في حزب الله وترجم وهنًا مع تسلّم الشيخ نعيم قاسم الأمانة العامة خلفًا لنصرالله والحديث عن تعيين بديل لوفيق صفا في الجهاز الأمني التابع للحزب.
اذا كان ماكيافيلي في كتابه «الأمير» قد وضع جلّ جهوده لبناء الشخصيّة الديكتاتورية اللبقة فإنّ الاسلام السياسي بمختلف أشكال أدبياته كرّس إنهيار الشخصية القائدة بمجرد إقصائها ودخول البنية السياسية والإجتماعية لهذا الحزب وذاك التنظيم في أتون الفوضى.
لا شكّ أنّ الاسلام السياسي اليوم يعيش في حالة من الإحتضار التي سيتبعها إستشراس أفراده واستخدام منطق الساطور والقتل وتكميم الأفواه لتغطية الخسارات بدلًا من النقد الذاتي، كل ذلك سيتم وضعه في خانة «الحوادث الفرديّة»، سيناريو يحيلنا إلى سؤال واحد: هل هذا الفراغ سيفرز هوّة بين الشعوب وفهم الديمقراطيّة أم يقودنا نحو رماديّة إجتماعيّة فكريّة قائمة على الفوضى؟