مع دخول قوى المعارضة السورية إلى مدينة حلب وريفها، وسيطرتها على مساحات واسعة من شمال سوريا، يبرز تساؤل حقيقي حول هوية الحكام الجدد للمدينة المتعددة ثقافياً ودينياً وعرقياً وكيفية إدارتها.
يتشكّل المهاجمون من جهتين أساسيتين، وهما مدعومتان من تركيا بشكل مباشر. الأولى هي «هيئة تحرير الشام»، الامتداد «الطبيعي» لـ«جبهة النصرة» التي كانت تابعة لـ«تنظيم القاعدة»، ويرأسها أبو محمد الجولاني. أما الثانية، فهي عشرات الجماعات المسلحة المنضوية تحت لواء «فصائل المعارضة السورية»، وتضم تشكيلات متعددة ومختلفة المشارب والأهداف والولاءات، بعضها سوري فيما غيرها من جنسيات وأعراق أخرى، كالأوزبكية، التركمانستانية، الشيشانية، التركمانية وغيرها.
أما مدينة حلب، فهي تضم تنوعاً عرقياً ودينياً مهماً. يسكن الأكراد في الأحياء الشمالية من حلب، كمنطقة الشيخ مقصود وحي الأشرفية وحي الشيخ نجار. كما يمتد نفوذهم، عبر «قوات سوريا الديمقراطية»، إلى ريف حلب الشمالي والغربي، حيث يسيطرون على عشرات القرى وتقاطعات الطرق الإستراتيجية.
بالنسبة للمسيحيين، فإنّ حضورهم في المدينة متراجع، لكنهم لا يزالون يشكّلون جزءاً مهماً منها، وهم متنوعون طائفياً؛ إذ يوجد الأرمن، الأرثوذكس، الموارنة، اللاتين، وغيرهم من المذاهب المسيحية.
رغم ذلك، فإنّ التنوع الطائفي في سوريا ليس واضحاً ومؤثراً كما هو في لبنان، إلا أنّ المخاطر على هذا التنوّع تبدو أكبر من تلك القائمة في لبنان. قد يدفع المسيحيون والأقليات الأخرى ثمناً باهظاً بعد سيطرة «الهيئة» وفصائل المعارضة السورية على حلب، خاصة وأنّها جماعات متشددة حتى وإن ارتدت لباساً مدنياً وحداثياً كما يحاول الجولاني الظهور في أكثر من مناسبة.
لا نصير لمسيحيي حلب بشكل خاص أو حتى مسيحيي سوريا بشكل عام. لن يجدوا تأييداً لهم أو خوفاً عليهم من مسيحيي لبنان حتى، وذلك لأسباب عديدة، بعضها تنظيمي ديني، وبعضها الآخر سياسي محض متعلق بالخيارات السياسية العامة.
السبب الأول يعود إلى التركيبة السلطوية والإدارية داخل الطائفة المارونية اللبنانية تحديداً، ذات السطوة الثقافية على مسيحيي لبنان. يشير كتاب«إمامة الشهيد وإمامة البطل» لفؤاد إسحاق الخوري، إلى أنّ مركز هذه الطائفة هو في لبنان، أكان في بكركي أو جبل لبنان وأطرافه بشكل عام، فيما يبرز مسيحيو سوريا كطرف لهذه الكنيسة وأنظمتها الداخلية والإدارية. بمعنى آخر، يتأثر الطرف بالمركز وليس العكس. فإن حلّ خراب في المركز المسيحي الفاعل في الشرق، أي لبنان، تأثر وتعاطف مسيحيو المحيط به، أما إذا حدث مكروه في الأطراف، فلن يكترث له المركز بشكل حقيقي.
يمكن الإشارة هنا إلى تجربة الحرب السورية منذ انطلاقتها الأولى. تأثر وتعاطف ونشط كل من سنّة لبنان وشيعته ودروزه بما جرى لأبناء طوائفهم في سوريا. تدخلت الزعامات الدرزية اللبنانية في أحداث محافظة السويداء ذات الأكثرية الدرزية، كما تعاطف سنّة طرابلس وعرسال وعكار وبيروت مع الثورة السورية. أما شيعة لبنان، فقد انخرطوا مباشرة في الحرب بمسوغات طائفية بدأت بالدفاع عن القرى الشيعية السورية، وصولاً إلى الدفاع عن مقام السيدة زينب في ضواحي دمشق.
أما مسيحيو لبنان، فلم يُبدو أي اكتراث جدي بمصير مسيحيي سوريا. حتى التعاطف عند رؤية الكنائس المسيحية السورية مدمرة كان محدوداً. لم ينخرطوا عسكرياً ولا سياسياً ولا حتى إعلامياً في الدفاع عن أبناء إيمانهم ما وراء الحدود. لم يقترحوا جدياً إيواء من يترك منهم بلادهم لفترة .
هذا الواقع لا يتعلق بهوية مسيحيي لبنان العميقة وكيفية رؤيتهم للأمور فقط، ولا حتى بتنظيمهم الديني فحسب، إنّما أيضاً بزعمائهم السياسيين المحدودي الأفق. يهمهم المحافظة على ما تبقى لهم من نفوذ في لبنان، ولا يملكون أي أبعاد تتخطى الواقع أو تجعل منهم لاعبين مؤثرين في المجتمعات المحيطة.
سبب آخر لعدم تعاطف مسيحيي لبنان مع مسيحيي سوريا هو الهوية والخيارات السياسية المختلفة بينهما. مسيحيو سوريا يؤيدون الحكم السوري ونظامه السياسي، ويرونه خياراً أفضل من المعارضة السورية. منذ بداية «الثورة» أو الحرب السورية عام 2011، اتخذت الزعامات الدينية المسيحية السورية خيار الدفاع عن النظام السوري في أسوأ الأحوال، أو الركون إلى السكينة وموقع المراقب في أحسنها. هذا الخيار لا يشبه خيارات مسيحيي لبنان الذين يعادون النظام السوري بسبب تدخله في لبنان وما أحدثه من تدمير في المجتمع المسيحي اللبناني بشكل خاص. لمسيحيي لبنان ثأر قديم مع النظام السوري وحكم آل الأسد، ولا يرونه بعين إيجابية البتة، هم حاربوه خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وعاندوه في فترة السلم، ورفسوه من بلادهم عام 2005.
تبقى هذه الإختلافات الجوهرية السبب الأساسي لعدم التعاطف أو التعاون الحقيقي، خارج إطار إضاءة الشموع وترنيم التراتيل والدعوات الطيبة. يظل مصير مسيحيي سوريا، خاصة في المناطق التي سيطرت عليها قوى المعارضة مؤخراً، عرضة للقمع والبطش والترهيب، وهو أمر مألوف في أحداث سوريا وما نتج عنها من ويلات طاولت جميع السوريين من مختلف الطوائف.
الأحداث الأخيرة في اليومين الماضيين تشير إلى ميل القوى المهاجمة إلى محاربة الأكراد و«قوات سوريا الديمقراطية» بشكل أساسي، بهدف السيطرة على كامل حلب، وربما التوجه لاحقاً، وبشكل جدي، نحو حماة. يبقى مصير مسيحيي حلب ومحيطها مؤجلاً حتى استتباب الأمور للمهاجمين، ودخول الجولاني كفاتح إلى المدينة وإدارتها بشكل مباشر.