وفيق صفا والنار

وفيق صفا والنار

  • ٠٧ كانون الثاني ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

الواقع يفرض على «حزب الله» مواجهة الحقيقة: قبضته تضعف، وتحالفاته تتآكل. وقدرته على فرض شروطه تتضاءل يوماً بعد يوم. في هذا السياق، قد يكون جعجع خياراً أقل ضرراً لهم مما يظنون.

«في البدء كانت النار». هكذا يبدأ الفيلسوف الفرنسي «تيلار دو شاردان» إحدى كتبه، مستبدلاً تعبير «الكلمة» الإنجيلي، بتعبير رمزي هو«النار»، محاولاً حلّ لغز التطوّر بوصفه عملية روحية تهدف إلى تحقيق الوعي، لا مجرد عملية بيولوجية فقط. والوعي هو ما يحتاجه أي فاعل سياسي في الحياة العامة، فيما ركن أركان الوعي هو تناسب الموقف العلني مع الإمكانات الواقعية من ناحية ومع القيم السامية من ناحية أخرى.

قس موقف وفيق صفا الأخير حول الانتخابات الرئاسية اللبنانية عبر فلسفة «دو شاردان». «مسؤول وحدة الإرتباط والتنسيق» الذي اشتهر بتهديد القضاة وبأدواره الأمنية، بات اليوم متحدثاً باسم من تبقى من «حزب الله». قال صفا إنّ «الفيتو الوحيد هو على سمير جعجع، بوصفه مشروعاً فتنوياً تدميرياً». هيهات. من تسبّب بتدمير ربع لبنان بسبب مغامراته الفاشلة، في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية، «يعيّر» غيره اليوم بأنّه مشروع تدميري!

لم يعِ صفا ومن تبقى من حزبه أنّ «الزمن الأول تحوّل»، وأنّ علو سقف المواقف لا يتناسب مع الواقع. الواقع يقول إنّ قادة «حزب الله»، من أعلاهم إلى أدناهم، قد قضوا تحت النار بعدما وشيَ بهم من الداخل. أما أداؤهم الميداني، فكان تعيساً، إذ خسروا آلاف المقاتلين، وعشرات آلاف الوحدات السكنية، كما ترسانة الصواريخ وغيرها من الوسائل القتالية، وأُجبروا، في النهاية، على التوقيع على إتفاق مذل يُجبرهم على تلقي الأوامر من قادة جيوش أخرى. هذا هو الواقع الذي يتغاضى صفا عن فهمه، ويظن أنّ بإمكانه الآن أن يتصرف كأنّ شيئاً لم يكن أو كأنّ الهزيمة لم تقع.

أما عن القيم السامية التي يتحلى بها صفا وصحبه، فيا ليت كانت السياسة التحريرية لهذا الموقع تسمح بإدخال Emoji «الوجوه الضاحكة» في المقالات، لكانت وفرت كتابة المقطع التالي. إنّ المتسبّب بإحراق بيئته في النار، لا حق له في وضع أي شروط على المجتمعات الأخرى. لا بل إنّ من تسبّب بتشريد مليون فرد وعرض حياتهم للخطر، من واجبه الإعتذار منهم ومن مجمل اللبنانيين الذين تنغصت حياتهم بسبب الحرب. التواضع والإعتذار من القيم الأساسية، وصفا وحزبه لا يتقنون منها شيئاً.

ثم، ما دخل صفا في ترشيح جعجع من عدمه، خاصة أنّ الأخير يحظى بتأييد واسع في بيئته، ولديه كتلة نيابية وازنة وصلبة، كما حفنة من الحلفاء في الداخل الذين يدورون في فلكه. ألم يلتزم المسيحيون بأدبيات النظام السياسي اللبناني وشروطه، وسلّموا بأنّ الأقوى والأكثر تمثيلاً في الطائفة الشيعية يقرر من يكون رئيس مجلس النواب؟ لماذا إذاً يُمنع جعجع من أن يُطبق الشرط نفسه عليه عندما يأتي الأمر إلى منصب رئاسة الجمهورية؟  

أليس الأفضل لـ«حزب الله» وبيئته أن يكون جعجع رئيس دولتهم؛ رجل يمكنه أن يعيد الإعمار وأن يستجلب المساعدات الخليجية والأجنبية، ويساهم في بناء السلام في لبنان؟ من يمكنه حقاً أن يفعل ذلك من المرشحين الآخرين، جهاد أزعور أم فريد الخازن أم تلك «الورقة المحروقة» سليمان فرنجية؟  

على العموم، جعجع ليس مرشحاً، ولن يكون في الوقت الحالي وربما لن يكون يوماً، طالما لم يُعلن ترشيحه ولم تصدر إشارات أميركية وخليجية بالتخلي عن قائد الجيش جوزف عون ليشغل المنصب الرئاسي. فيما على الحزب أن يختار بين عون ودوام الفراغ، خاصة أنّ قبضته المتمكنة على رقاب وقرارات حلفائه قد ارتخت في الأشهر القليلة الماضية.

بالعودة إلى فلسفة «دو شاردان»، الذي ربط التطور بالنار الروحية، تلك النار التي تضيء الدروب لكنها تحرق أيضاً من يتعامل معها بطيش. فالنار هنا رمز للوعي، للانضباط، وللإدراك بأنّ كل خطوة في العمل السياسي تحتاج إلى تناسب بين الطموح والواقع، وبين القيم المعلنة والسلوك الفعلي.

وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى موقف صفا كامتداد لمحاولات «حزب الله» فرض سردية زائفة على المشهد السياسي. فبدلاً من مواجهة الوقائع، يحاول صفا اللعب على أوتار التحريض وإطلاق المزايدات، متجاهلاً ما آلت إليه سياسات الحزب من أزمات كارثية. لكن التاريخ لا يرحم، والوقائع أكبر من أن تُغطى بخطابات عالية السقف.

حين يقول صفا إنّ جعجع «مشروع تدميري»، فإنّه يتجاهل أنّ حزبه ذاته تحول إلى عبء على بيئته أولاً، وعلى لبنان بأسره. من تسبّب بإنهيار الإقتصاد، ومن جرّ البلاد إلى عزلة دولية، ومن حوّل الجنوب والضاحية إلى ساحات مفتوحة للحروب العبثية، لا يملك رفاهية توجيه الإتهامات للآخرين، بل عليه واجب الإعتذار وطلب السماح فقط.

أما عن الشروط التي يفرضها الحزب على المرشحين لرئاسة الجمهورية، فهي تكرار للنهج ذاته: إعتبار البلاد مجرد رقعة شطرنج تُدار من غرفة عمليات للحزب تحت الأرض. لكن اللعبة تغيّرت، والشطرنج أصبح فوضى عارمة، حيث لم يعُد للحزب ولا لصفا السيطرة المطلقة التي توهموها.

جعجع، سواء أُعلن ترشيحه أم لا، يمثل تحدياً حقيقياً لهذه السردية. فهو زعيم سياسي له وزنه، ويحظى بشعبية وازنة في بيئته وتجربة طويلة في الميدان العسكري والسياسي. وليس من المحق أن يُحرم من ممارسة حقوقه السياسية تحت مظلة «الفيتو» الذي لا يعكس إلا ضعف من يرفعه. أما وصوله إلى السدّة الرئاسية فموضوع آخر.

أما الخيارات البديلة، فهي ليست إلا تعبيراً عن محاولات بائسة لتجميل وضع بائس. سليمان فرنجية لا يحمل أي مشروع إنقاذي. فيما جهاد أزعور أو فريد الخازن أو زياد بارود أو نعمت إفرام أو الياس البيسري أو جورج خوري، رغم كفاءة بعضهم، يفتقرون إلى الثقل السياسي والشرعية الشعبية التي يمكن أن تضع البلاد على مسار التعافي.

الواقع يفرض على «حزب الله» مواجهة الحقيقة: قبضته تضعف، وتحالفاته تتآكل. وقدرته على فرض شروطه تتضاءل يوماً بعد يوم. في هذا السياق، قد يكون جعجع خياراً أقل ضرراً لهم مما يظنون. لكن المشكلة الأساسية ليست في الأسماء، بل في المنظومة الفكرية التي تقود قرارات «حزب الله»، والتي لا تزال عالقة في أوهام القوة والسيطرة.

إنّ النار التي تحدث عنها «دو شاردان» ليست مجرد أداة تدمير، بل هي أيضاً فرصة لإعادة البناء. والسؤال المطروح الآن على صفا ورفاقه: هل سيواصلون اللعب بالنار حتى تحرق الجميع، أم سيختارون أن يجعلوا منها شعلة نور تهدي إلى طريق جديد للبنان؟