اللاعنف: قوة التغيير التي تواجه عنف التاريخ

اللاعنف: قوة التغيير التي تواجه عنف التاريخ

  • ٢٥ كانون الثاني ٢٠٢٥
  • تيريزا كرم

«يجب أن لا نُخدع بوجهة العنف والغاية التي يصبو إليها ضمنياً أو صراحة، مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، فالعنف يعني موت الآخر أو شيئاً أسوأ من موته»


لعل صيغة «عدم مقاومة الشر» التي أطلقها ليون تولستوي الكاتب الروسي في القرن التاسع عشر، هي واحدة من الصيغ الأكثر قيمة وتطوراً لجوهر اللاعنف، وتجلى تأثيرها الكبير على حركة اللاعنف في القرن العشرين. فهي تتضمن معنى الإمتناع عن ممارسة العنف ضد الآخرين، حتى في حالات الخطأ أو في  تقرير مصيرهم، وهذا لا يعني الضعف بقدر ما هو رفض لتولي دور القاضي في مسألة الحياة والموت، كما أنّ هذا لا يتطلب التخلي عن الحكم على أفعال البشر إنّما يعني الابتعاد عن أحكام وسلوكيات تبرّر العنف ضدهم. 
والعنف غير مبرّر ولو جاء بتبرير ديني، فالإله العنيف يقابله حتماً عالم عنيف ، والمنظور الإيماني الى مشكلة العنف واللاعنف لا يخصّ المؤمنين فحسب، بل كلّ من يحركة مثال سلامي ولاعنفي، 
وإنّ تاريخاً لاعنفياً للبشر لا يمكن إلّا أن يقابله تمثيلاً لإله لاعنفي.

وقد وجد علماء النفس، أنّ العنف لا يلتزم الطبيعة البشرية بالضرورة، إنّما هي العدوانية  التي تجد محفزاتها في السياقات السلوكية والإجتماعية فتتخذ مسارات وفق السياقات التي نشأت فيها، كما أّنّه ليس من المحتم على الإطلاق أن تعبر عن نفسها بالعنف. العدوانية، في جوهرها، هي قوة نضالية، وبهذه القوة يؤكد المرء ذاته، وعليها تقوم شخصيته وتتأسس.

اللاعنف: خيار التغيير

إنّ الترويج لأحاسيس عنيفة نتربى عليها ويتمّ الإيحاء لنا أنّها من صميم طبيعتنا، فنمضي الأيام في مواجهات عنيفة، لا تؤدي بنا إلّا الى هزائم مستمرة، ولو فاز الخيار العنيف بما يصبو إليه.  إذ إنّه من السهل على الإنسان إدراك حالات الغضب والكراهية، حين تصوّر القوة العنفية على أنّها الخيار الوحيد لحل النزاع، وتبيّض صفحة الإنتقام والتشفي، وأنّ الحقّ لا يؤخذ إلّا بإلغاء الآخر عن طريق قتله أو تدميره، وبالتالي فإنّ معالجة الخلل أو الظلم بالوسائل اللاعنفية الإلغائية يؤدي الى دوامة العنف فيقع ضحيتها المظلوم قبل الظالم.

في المقابل فإنّ العمل اللاعنفي هو محفز لمواجهة الظلم ويهدف، بادئ ذي بدء، إلى خلق النزاع وتوجيه العدوانية لدى المظلومين، فالعدوانية واللاعنف ليستا نقيضين بالمعنى الحرفي. إنّ العدوانية هي طاقة، ومثل أي طاقة، يمكن توجيهها بطرق مختلفة. اللاعنف هو طريقة لتوجيه هذه الطاقة بشكل بناء بدلاً من تدميري. فالعدوانية بحد ذاتها ليست سلبية، بل كيفية التعبير عنها هي التي تحدد طبيعتها. واللاعنف لا يعني الكبت أو الضعف، بل يعني التحكم في رد الفعل العدواني وتوجيهه نحو هدف إيجابي..
والحال أنّ النزاع من طبيعة البشر ويتخذ إما مسارات عنيفة أو سلمية، وينعدم عندما يرضخ العبد لسيده، وفي مثل هذه الحالة يبدو النظام مستتباً، لكأنّ لا شيء يستوجب إعادة النظر فيه. فالنزاع يبدأ من اللحظة التي يعي فيها العبد حقوقه ويهب للمطالبة بها.
وبالرغم من ترداد البشر كلمات التمرد والثورة، فإنّنا إن تتبعنا التاريخ البشري، سواء في حياة الأفراد اليومية أم في تاريخ الشعوب، لاحظنا أنّ قدرة الناس على الرضوخ غالباً ما تكون أكبر من قدرتهم على العصيان.
إنّ ما قام به مارتن لوثر كينغ من أجل السود في الولايات المتحدة. وباعتراف الزعماء المتطرفون الذين دعوا إلى العنف بأنّ عمله الكبير قام، بالدرجة الأولى، على إيقاظ عدوانية السود، والمقصود هنا ليس تحريض المظلومين على العنف، بل تحفيز هذا الشعب الذي استسلم طويلاً لمصيره كشعب مُستعبد، لإخراجه من التعايش مع الظلم، وللمطالبة بحقوقه والدفاع عنها من خلال المقاومة السلمية، وهي دعوة الى المواجهة الحقيقية لرفض حالة الغبن وإلغائها دون مواجهة العنف بعنف آخر، لقد سجنوا بالآلاف دون مقاومة وأرغموا 
البيض على الإعتراف بحقوقهم الإنسانية، لكن هذا النوع من النصر يتطلب الكثير من الوقت والصبر والجهد، وبالمقابل كما في كل مكان، متطرفون وعنفيون يريدون انتزاع انتصار سهل وسريع بالقوة.
وهكذا عندما يعي الإنسان أنّ العنف هو مسار موت يفسد جذرياً علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، يجب أن يرفض كل تبرير للعنف. فالعنف عائق في سبيل مصالحة الإنسان مع ذاته ومع الآخر. وحده اللاعنف يدخلنا في ديناميكية من الأمل تحررنا من حتمية العنف الذي يؤدي الى حالات جديدة من الظلم.
 

اللاعنف: بين النظرية والتطبيق

ومما لا شك فيه أنّ للعنف عقبات إن لم تتوفر أرضية جاهزة له منها نفسية كالغضب والرغبة في الإنتقام والجهل بمبادىء اللاعنف، والخوف من الظهور بمظهر الضعيف كما عدم الصبر والمثابرة، فضلاً عن عقبات إجتماعية- ثقافية تمجّد العنف، أو سياسية خاصة في ظلّ النزاعات المسلحة إذ يستحيل العمل تحت وقع السلاح، والعقبات العملية هي بعدم وجود تنظيم وتواصل بين مكونات الجماعة التي تسعى الى التغيير.

إنّ تجارب الشعوب في مجال إسترداد حقّها في الحياة والحريّة والعدالة الاجتماعية، دون مواجهة العنف بعنف آخر ودون أن يتحول المظلوم بدوره الى متعدٍ على حقّ الآخرين، فتنقلب الأدوار، ويعيد التاريخ نفسه. وقد واجهت شعوب أقسى درجات الإستبداد والتمييز وتمكنت من الخروج منها بعيداً عن الحلول الدموية، وتجربة نلسون مانديلا في مواجهة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كما غاندي في الهند خير دليل على واقعية وفعالية النضال اللاعنفي. وهو مسار طويل يتطلب جهدًا ذاتيًا مستمرًا لتنقية الروح وتطهيرها.
فالبشر معرضون للغضب، والخوف، والأنانية، وغيرها من المشاعر التي قد تدفعهم نحو العنف، وطالما أنّ هذه المشاعر موجودة ، فإنّ تحقيق اللاعنف المطلق يبقى تحدياً كبيراً، ويبقى نظرياً كما خط إقليدس المستقيم على حد تعبير غاندي،والخط المستقيم في الهندسة الإقليدية يعرف بأنّه بلا عرض ويمتد

 الى ما لا نهاية، وفي الواقع لا يمكن رسم خط مستقيم تماماً في العالم المادي.

اللاعنف: نضال منظم

بعد الحروب الأخيرة التي عصفت بالعالم، وجب أن تتجند البشرية في النضال اللاعنفي، الذي يتطلب إعلاماً مستمراً عن العمل اللاعنفي، وتحليلاً سياسياً واقتصادياً دقيقاً للواقع والأوضاع العنيفة، كما يتطلب مشروعاً سياسياً محدداً
وخطة استراتيجية للتحرك وتنفيذها، تتجلى في أشكال التدخل المباشر، وأعمال الإحتجاج والإقناع، وعدم التعاون الإقتصادي والإجتماعي والسياسي وكلها أشكال أثبتتها التجارب ترتكز على تقنيات واستراتيجيات منهجية.

وقد شهد التاريخ أحداثاً وتدخلات لاعنفية لا تحصى، لقد شهدت عواصم العالم اليوم تدخّل خطابي في الإحتجاجات ضد حرب غزة، أكان ضد إجتماعات لقادة مساهمون في الإبادة. أو من خلال إحتجاجات شعبية واسعة، أو انشاء إعلام بديل على المواقع الالكترونية صنعه ناشطون عاديون بهدف التأثير بالرأي العام العالمي في رواية القصة من زاوية أخرى أقرب الى الحقيقة.

وقد يتخذ التدخّل اللاعنفي كذلك أشكالاً إقتصادية، أو ما يسمى الإضراب المعكوس وهذا التحرك حسب ما ذكر في مؤلف ل جين شارب حول أشكال التدخّل المباشر تعود بداياته الى العام  ١٩٥٠ مع العمال الزراعيين في إيطاليا بقيادة الداعية الى التغيير اللاعنفي دانيلو دولتشي. ومن الأمثلة الكثيرة، مقاطعة شبكة النقل العام، وخلق شبكات نقل بديلة كما حدث في مونتغمري في الولايات المتحدة أثناء حركة الحقوق المدنية للسود الأميركيين.

عندما تصل الحركات اللاعنفية الى هذا الحد من التنظيم وابتكار استراتيجيات مواجهة تتلاءم مع زمان ومكان وطبيعة الأحداث يدرك الناس أنّ هذا الخيار سيكون أقل تكلفة بكثير على المستوى الإنساني والأرواح والممتلكات وأكثر فعالية وقدرة على الإنجاز في المستقبل.