الطائفة المكروهة

الطائفة المكروهة

  • ١٤ شباط ٢٠٢٥
  • أنطوان الخوري طوق

بعد تغييب الإمام موسى الصدر إنقلبت المقاييس وأخذ اللبنانيون يطالبون ورثة «المحرومين» بالمساواة والعدالة أمام القانون وبالحق في العيش الآمن وبالإفراج عن الحياة السياسية وعدم تعطيلها وعدم اغتيال السياسة

إنّ اختزال اللبنانيين الشيعة بالثنائي حزب الله وحركة أمل يبدو أمراً غير واقعيّ ويجافي الحقيقة التاريخية للطائفة الشّيعية في لبنان رغم ما يحظى به هذا الثنائي من سلطة عبر التغلغل في كل مفاصل الدولة ، ومن سطوة عسكرية ومالية عزّزتها الوصاية السورية ومن ثم الوصاية الإيرانية حيث تمت الهيمنة المطلقة على قرار الطائفة وعلى القرار اللبناني السياسي والإقتصادي والقضائي والأمني بوجه عام، علماً أنّ هذه الطائفة وفي الأمس القريب كانت خزاناً  للتيارات السياسية والفكرية والدينية يميناً ويساراً، وهي الى اليوم من أكثر الطوائف تعدّداً وتنوّعاً ولكن جرى اختطافها وسرقة ملامحها الأصلية بعد ثورة الخميني والعبث الإيراني بإستقرار الإقليم، وبدعة ولاية الفقيه التي ترفضها المراجع الدينية الشيعية العربية وذلك عبر تحويل غالبية المنتمين إليها ترغيباً وترهيباً الى كتلة بشرية محكمة الإغلاق على الآخرين والإنغلاق على الذات، تحرّكها الشعارات والغرائز والعصبيات والتبعية الإيديولوجية الدينية للخارج الفارسي، وكأنّ هذه الكتلة قد وُضعت عن قصد في وجه الشيعة الذين لا يرون ما يراه الثنائي في السياسة وفي الفكر والثقافة والدين والحياة المعيوشة، كما وُضعت في وجه اللبنانيين عامةً، في وجه رفاهيتهم وأمنهم وحريتهم وسلامتهم وسلامهم بعد أن سدّت آذانها على أيّ دعوة للحوار والتعقّل ومراعاة المصلحة اللبنانية العليا، وملاقاة الآخرين في صياغة الحاضر والمستقبل اللبناني وذلك عبر إعادة بناء الدولة والحياة المشتركة، وعبر سدّ المنافذ التي يدخل منها الموت والخراب، وعبر تحسين أوضاع اللبنانيين الإقتصادية والإجتماعية والتربوية والحياتية.

فقد وُضعت هذه الكتلة البشرية المتراصّة في وجه المطالبين بالإصلاح ومحاربة الفساد للخروج من الأزمات المالية والمعيشية التي حاصرت اللبنانيين وهجّرت شبابهم نتيجة الشعور باليأس والعجز عن الخروج من النفق المظلم الذي ساهمت هي في حفره وأسر اللبنانيين داخله وربطهم بالمتغيرات الإقليمية والدولية.

فالإمام السيد موسى الصدر كان قد أسّسس في سبعينيات القرن الماضي حركة تحت إسم «حركة المحرومين» وهي حركة إجتماعية مطلبية قبل أن تتعسكر نتيجة العدوان الإسرائيلي ، فكان يتوجه الى الدولة مطالباً لا مقاتلاً، مطالباً بالمساواة والعدالة في توزيع الثروات وعدم التهميش عبر تنمية الأطراف البعيدة عن المركز، والذين عاصروا تلك المرحلة يتذكرون جيداً وقوفه على منابر الكنائس والمساجد واعتصامه احتجاجاً ورفضاً للإقتتال بين اللبنانيين إبّان بدايات الحرب الأهلية.

ولكن بعد تغييبه إنقلبت المقاييس وأخذ اللبنانيون يطالبون ورثة «المحرومين» بالمساواة والعدالة أمام القانون وبالحق في العيش الآمن وبالإفراج عن الحياة السياسية وعدم تعطيلها وعدم اغتيال السياسة ، وذلك بدلاً من مخاطبة الدولة التي أمعنوا في تهميشها وإلغائها وإنتهاك نصوصها الدستورية عبر الإستقواء بأجندات خارجية حيث تمّ استبدال الدولة بالدويلة.

وهكذا بدت هذه الكتلة البشرية التي عمل الثنائي على تربيتها وهندستها على تباين وتناقض مع غالبية اللبنانيين، فما يريحها يزعجهم وما يزعجها يريحهم، كتلة تأبى إلّا أن تحاور نفسها، وقادتها لا يحسبون أي حساب لأي لبناني آخر مختلف، فيتم التوجّه عبر إطلالاتهم الخطابية الى جمهورِهم الخاص دون سائر الشيعة المختلفين عنهم بالرأي ودون سائر اللبنانيين كما دون أي مراعاة لحساسية وهشاشة ودقة التركيبة اللبنانية عبر التحكم بقرار الحرب والسلم، وتحميل اللبنانيين كلفة وأثقال القضية الفلسطينية، وتبعات المواجهة غير المتكافئة مع العدو الاسرائيلي وما تخلفه من موت ودمار ومن إستباحة للبلاد برًّا وبحراً وجوًّا، وحرب الإسناد التي رفضتها غالبية الشعب اللبناني هي الدليل القاطع على تبعات التفرد بقرار الحرب والسلم وعلى سوء التقدير عبر المغامرات الإنتحارية القاتلة.

وهكذا جرى تكوين صورة نمطية للشيعة فاختصرتهم غالبية اللبنانيين بالثنائي حزب الله وحركة أمل وجرى تحميل الطائفة مجتمعةً كل الويلات السياسية والإقتصادية والحياتية، وتمّ حشر لبنان بين حقدٍ تلموديٍّ أعمى وفائض قوة داخلي أصمّ شرّع الحدود والمرافق الحيويّة أمام التنظيمات المسلحة المتطرفة وأمام التهريب والتزوير وسرقة لقمة عيش اللبنانيين.

كل ذلك أدى الى استفحال خطاب الكراهية وإلى تعميم الحذر الطائفي، لا سيما بعد استعراضات الدراجات والرايات وصيحات «شيعة شيعة شيعة»، وآخرها على الحدود الجنوبية إذ لولا الرايات الحزبية والإستثمار السياسي لكانت عودة الناس الى قراهم المدمّرة وحقولهم المحروقة في ظل المسيّرات والمدافع والدبابات الإسرائيلية المتوحشة من أرقى أشكال المقاومة المدنية اللاعنفيّة، فالسيدة المتّشحة بالسّواد في مواجهة الدبابة الإسرائيلية قد استرجعت صور إنتفاضة الحجارة في فلسطين في الثمانينيات وما جرى في ساحة «تيان إن مين» في الصين .

لكن العراضات الإستعلائية والمكابرة والإصرار على تجاهل وإنكار الوقائع التي خلفتها الحرب الإسرائيلية على لبنان وحرب الإسناد وعدم النزول عن الشجرة الذي تسبّب بحرق أعمار وأرزاق اللبنانيين، كلها أمور ضيّعت وتضيّع صياغة علاقات ودّية وسليمة بين المجموعات اللبنانية ، لا سيما بعد أن اعتلى المنابر الشيعية مناكفون طارئون جدد من سياسيين ورجال دين مكان أهل الإعتدال والتعقّل والإنفتاح من التنويريّين والنهضويّين الشيعة، مكان حسن كامل الصّباح، وحسين مروة ، وحبيب صادق، ومهدي عامل، وكامل وكريم مروّة، والامام محمد مهدي شمس الدين ، والسيد محمد حسن الأمين، والسيد هاني فحص، الذي كان يعتبر الحوار ضرورة وجودية منعاً للتكلّس، والذي كان يطمح الى تشارك الآخرين في مشروع حضاريّ إنسانيّ دون الوقوف عند مظاهر القوة والعدد والثراء ، ولا عند تربية العضلات على حساب العقول .وبدا السيد هاني فحص خائفا من «اندثار الأوطان والدول إذا ما استمرت الطوائف لا سيما المستقوية منها غالبة على المواطنة ومفكِّكة للدولة بحيث يصبح الدين أدياناَ، والمذهب مذاهب، فيسود الإلغاء المتبادل بالتهميش أو القتل المتبادل، ويصبح الإستبداد الواحد إستبداد الحاكم الواحد والحزب الواحد أو الطائفة الواحدة استبدادات متعددة متقاتلة بأجساد شعوبها... فالخوف هو من الطوائف على نفسها وعلى الآخرين، فإذا تحوّل الدين أو المذهب الى إطار عصبيّ إلغائيّ عندئذٍ تصبح المواطنة هي المهدّدة، والمواطنة هي إيمان عميق بالوطن على أساس دولة تضمن هذا الإيمان وتضمن الوطن والمواطن على أساس من العدل والمساواة والحرّية، ومن دون دولة حقيقية جامعة وعادلة يبقى مفهوم المواطنة عرضةً للإهتزاز والإبتزاز ....»

أضف الى هؤلاء الأعلام النهضويين البلغاء المتحدّثين بلغة لبنانية صافية وجامعة نخباً من الأكاديميين والباحثين السياسيين والكتّاب الصحفيين والشعراء والمفكّرين والأدباء والفنانين الذين أعادوا تسمية الأمور بأسمائها الحقيقية في انحيازهم الشجاع الى القضايا المبدئية المحقة، والذين لهم من الجرأة والشجاعة والمعرفة ما يجعلهم خارج أي قطيع وخارج كل الحشود التي تعمل على تذويب  الهويّات الفردية في الكتل البشرية المتكلّسة.

هذه النخب المحاصرة تمثيليًّا من الثنائي وفي نفس الوقت من الطبقة السياسية الحاكمة أجهضت كل محاولات إسكاتها بتهم الخيانة والعمالة للسفارات من قبل الأقلام الصّفراء، بقي صوتها مرتفعاً ومعبّراً ليس فقط عن هواجس الشيعة وإنّما عن الهواجس والتطلعات الوطنية الجامعة لكل الجماعات اللبنانية ، وبقيت  صامدة في تصديها للتنميط ولخطاب الكراهية وللذوبان في الحشود وكمّ الأفواه بحجة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» كما بقيت على مواقفها من التصدّي لخطاب التعميم والتفرقة، ولكل جداول الضرب والطّرح والقسمة في وقت لا يملّ فيه المنتفعون من أهل الشيعية السياسية من تقديم الهزائم والخسائر على أنّها انتصارات، ومن احتكار السياسة وحتى التفكير وحتى المنامات كما في رواية «قصر الأحلام» لإسماعيل كاداريه نيابةً عن الطائفة مجتمعةً، ولم يتعبوا من فرض النمط الواحد في الفكر والعمل السياسيّ والسلوك الحياتي إذ عملوا جاهدين على تكسير المشترك العابر للقبائل والطوائف والمناطق والذي عملت على نسجه النخب الشيعية قديمها وحديثها طوال عهود عبر التأليف والنشر والبحث والاجتهاد. فقد عمل الثنائي عن قصد على تأسيس مصادر خاصة للثقافة في إعادة رسم الهويات على حساب الهوّية الوطنية الجامعة ، فغدا الشيعة بمجملهم وفي أذهان الكثيرين لاسيما الأجيال الجديدة من اللبنانيين طائفة ملتحفةً  بالخوف من الآخر المختلف، وبالخوف من الإستهداف في تمجيد يومي للإستشهاد والعنف ولألوان  الحداد حتى بات كثيرون يعتقدون متسائلين:  الا يحتفل الشيعة بالأعراس وبأعياد ميلاد بعضهم البعض؟ ألا يغنّون ويدبكون ويرقصون بثياب ملونة؟ ألا يسهرون ويشربون ويتنزّهون؟ أم أنّهم يموتون ويموتون سعداء فقط في أجواء تعبويّة لا يُعرف متى يتم وضع حدٍّ لها.

كثرٌ من اللبنانيين لا سيما من ذوي التعميم الطائفي قد فوجئوا بتمارا الزين وركان ناصر الدين ومحمد حيدر وكأنّهم آتون من كوكب آخر عندما شاهدوهم على الشاشات وهم يتحدثون بهدوء وتعقّل ومن دون أصابع مرفوعة، وبإلمامٍ أكاديمي بالمهمات التي جاؤوا من أجلها إلى الحكم وكأنّ الصورة النمطية للشيعة والتي عمل الثنائي على ترسيخها في أذهان القريبين والبعيدين قد انكسرت وخرجت من إطارها الصّلب.

نتيجة كل ذلك بات كثيرون يتساءلون هل يعمل الثنائي عن قصد إلى تحويل اللبنانيين الشيعة إلى طائفة مكروهة ومنغلقة على ذاتها لتأبيد السيطرة عليها وللإستثمار السياسيّ فيها عبر التخويف من اللبناني الآخر، وعبر إرهاب الشارع اللبناني بمواكب الدراجات والدواليب والرايات والُنّصُب الغريبة، وعبر صدّ كل محاولات التعرّف على الآخر من خلال الحوار في الوقت الذي تُقدّم فيه التنازلات «للشيطان الأميركي الأكبر» بدلاً من تقديمها للشركاء في الوطن في حوارٍ وطنيّ شامل .

وأمام هذه اللامبالاة بأعمار الناس وهذا التجاهل للمآسي وهذا الإنكار الدائم للخسارة، وهذا العناد في عدم مراجعة الذات وتقييم الوقائع، وهذا الدوران في الحلقة المفرغة من الموت والدمار وإعادة الإعمار والتسوّل من جديد على أبواب العواصم، يمكن القول إنّ الشقاء اللبناني ينبع من هذا العطش المطلق عند بعض الجماعات للتملّك والسيطرة، وبالتالي لا يمكن الحديث عن الحرية وعن التحرير إلّا بالتحرّر من هذا العطش لأنّ العنف يتجذر في الظلم والمصالحة والسلام لا يمكن أن يتجذّرا إلا في العدالة والعزوف عن استخدام الدين لتشريع العنف وتبريره وتقدسيه بدلاً من تدنيسه، ولا تحرّر دون التقيّد بالمتطلبات الأخلاقية لأي عمل سياسيّ لأنّه وكما يقول غاندي «الغاية لا تبرر الوسيلة»، فالغاية هي في الوسيلة كما الشجرة في البذرة.