طريق الوادي وطريق المطار
طريق الوادي وطريق المطار
"بين منطوقٍ لم يُقصد ومقصودٍ لم ينطق، يضيع كثيرٌ من المحبّة". يقول جبران. لكن ما لم يُردفه النهضويّ اللبنانيّ، هو أنّه، إلى جانب الكثير من المحبّة، تضيع، أيضًا، كلّ الحقيقة. طريقان كانتا الحدث في الأسبوع المنصرم، وإن بتفاوتٍ مفرطٍ في الصخب الإعلاميّ: طريق الوادي وطريق المطار. على الثانية نُطق غير المقصود من إقفالها، وعلى الأولى قُصد غير المنطوق حول توسيعها. وعلى الطريقين، ضاعت المحبّة والصدق وحسن النوايا وضاعت الحقيقة.
"المنطوق والمقصود والعمامة"
قد يبدو مرور الطريقين في جملةٍ واحدة شديد الغرابة، ولكن بين إقفال الطريق نحو المطار وبين توسيعها في وادي قنّوبين، تماثلٌ أبعد ممّا تراه العين. فالطريقان تؤدّيان إلى وجهاتٍ عالميّة. الوادي مُدرجٌ على لائحة التراث العالميّ، وهو حقٌ وملكٌ عالميّان لجميع أصقاع المعمورة، ومطار بيروت الدوليّ دوليٌّ هو الآخر، وللوافد إليه، من أيّ صَقعٍ في العالم، حقّ السلامة وبلوغ الوجهة. الحدثان يصارعان قراراتٍ دوليّةً ويهدّدان أمان المطار وأمان الوادي، وخلف كلّ منهما، عماماتٌ تنطق بغير ما تقصد. فالمقصود، في الحدثين، هو التنصّل من إلتزاماتٍ عالميّةٍ وُقّعت بالرضى، والمنطوق هو، تارةً، الغيرة على سيادة الدولة في المطار، وطورًا، الغيرة على مصلحة الأهالي في قنّوبين. المنطوق مقدّس والمقصود كُفر. فالتوق إلى قصف المطار، وإن على غير وجه حقّ، جريمةٌ أخلاقيّةٌ وسياسيّة، والصُبوّ إلى سحب وادي قنّوبين، من بين منارات التراث الطبيعيّ والتاريخيّ، خطيئةٌ ثقافيّةٌ وروحيّةٌ وإنسانيّة. الفارق الوحيد، بين الخطيئنين، هو أنّ إتّفاق وقف النار مُنفذٌ بالنار والنفوذ والمال والدول القويّة، فيما الإدراج على لائحة التراث العالميّ، لا يُنفَذ إلّا بالوعي والقناعة والصدق وحسن النوايا.
"علىطريق المطار"
مسافةٌ زمنيّةٌ قصيرة بين فجر الإنسحاب في الثامن عشر من شباط، وظهيرة التشييع، في الثالث والعشرين منه. للتشييع خطابٌ إلهيٌّ مُعاد في نصرٍ إلهيٍّ معتاد. خطابُ نصرٍ لا يخدم إتّفاق الهزيمة صدقيّته، وإتّفاقٌ يجهد الحزب في تمويه ختم موافقته عن صفحاته. فالمنتصر لا تُقفَل، في وجه طائراتٍ تحمل حاجياته، مدارج كانت، في الأمس القريب، تحت مطلق قبضته. فالإعتراض والتظاهر وإقفال الطريق توحي بأنّه ليس من بين أولئك الموقّعين على إتّفاق استسلام. فلنُقفل طريق المطار فنُظهِرُ شبحًا من قوّةٍ ذبُلَت. فلنرجُم عون وسلام بالعمالة والضعف والخنوع. فلنعيّرهُما بما وقّعنا نحن عليه، فنخرج بصورةٍ بهِتَت لمقاومين وطنيّين أشدّاء. فليُقصف المطار. ما الضير في ذلك؟ قد يُمسي خطاب التشييع أبهى نصرًا وأكثر قابليّةً للتصديق.
"على طريق قنّوبين"
ليست أوّل مرّة يُستدعى فيها صخب القوارض الميكانيكيّة إلى قلب سكينة الوادي. في الخريف الفائت، ضبط الأستاذ سمير غصن فؤوسًا وقوارض حديديّةً متلبّسةً أثناء عبثها بمعالم الوادي، ناحية مار أنطونيوس قزحيّا. سرعان ما استلّ المؤرِّخُ عصام خليفة وثائقه، وانضمّ إلى خطّ الدفاع عن الطبيعة والبيئة والتراث الكونيّ للوادي. حفّز غصن وخليفة إهتمامًا إعلاميًّا وشعبيًّا زاخِمًا، وتوصّلا، بشقّ النفس، مع أعيانٍ رهبانيّةٍ وكنَسيّة، إلى إتّفاقٍ لوقف نار الجرّافات وترميم الضرر.
قبل أيّام، استيقظت جبّة بشرّي على قرارٍ مبهمٍ لوزير الثقافة الأسبق، محمد مرتضى، يفتي فيه بتوسيع الطريق المؤديّة إلى قرية قنّوبين. قرارٌ ملتبسٌ لا خرائطَ مرفقةٌ فيه ولا مقاسات. لا مناسيب محدّدةٌ ولا مواصفات مكتوبة. جاء بيان البطريركيّة المارونيّة، المتناغم مع قرار الوزير، أشدّ منه غرابة: قيّمون على مؤسّسةٍ عريقة وعميقة في التعبّد والعلم والثقافة والتاريخ، مثل البطريركيّة المارونيّة، يتماهون مع قراراتٍ غير قانونيّةٍ تضرّ بمخابئ أسلافهم وصوامع نُسّاكهم وملاذ أعلامهم. ناهيك عن عطب الساسة.
"أنطقوا بما تقصدون"
الحفاظ على طبيعة ومعالم وفرادة الوادي هو مصلحةٌ وطنيّةٌ وعالميّة، وصمودُه على لائحة الأونيسكو للتراثِ العالميّ هو قمّةُ الحفاظ على مصلحة ساكنيه. طريقٌ خدماتيّة لدير مار أنطونيوس قزحيّا، حينًا، وأخرى سياحيّة دينيّة لامتناهية، حينًا آخر، ثمّ توسيع ثالثة تخدم رفاه الأهالي ويُسر حركتهم. ليس التراث حميمًا مع الطُرق الفسيحة. فالطرق الفسيحة جاذبةٌ للمحرّك والحديد والباطون والتجارة والتطوير العقاري والتلوّث والمنظرة الشوهاء. فإن كان التطوير العقاريّ قِبلتَكم، أعلنوها حربًا على التراث العالميّ، إشهدوا أنّ دينُكم دنانيركم… وأنطقوا، لمرّة، بما تقصدون.