شمعون يحتضن نصرالله: وداع المشاريع العابرة
شمعون يحتضن نصرالله: وداع المشاريع العابرة
احتضن ملعب الرئيس كميل شمعون جسد حسن نصرالله وخليفته في الوداع الأخير، فبدا كأنّ عبور«حزب الله» وبيئته إلى الدولة لا يمكن أن يتم دون رجل دولة.
في لحظة تاريخية مثقلة بالرمزية، احتضن ملعب الرئيس كميل شمعون جنازة حسن نصرالله، لكأنّ الزمن يعيد نفسه ليذكّر اللبنانيين بالمفارقة العميقة بين نهجين متناقضين: نهج الدولة ونهج الدويلة. هناك، في هذا الملعب الذي يحمل إسم رجل الدولة الذي سعى إلى ترسيخ سيادة الدولة اللبنانية وتعزيز مؤسساتها، ودع حوالى 300 ألف من اللبنانيين زعيم حزب لم يعرف لبنان إلا من خلال منطق السلاح والولاء الخارجي.
ليس من قبيل الصدفة أن يشهد هذا المكان وداع نصرالله، بل كأنّ التاريخ يسخر من المشاريع العابرة التي بنت مجدها على حساب الدولة ثم انهارت تحت وطأة التغيرات والحقائق المرّة. فالمؤسسات تبقى، أما الميليشيات فمصيرها الزوال، مهما طال الزمن. بالأمس، حملت الجموع نعش نصرالله وسط بحر من الرايات السوداء، لكن تحت تلك الرايات، بدا الحزن مضاعفاً: حزن على رجل انتهت مسيرته بهزيمة، وحزن أعمق على مشروع سياسي يجد نفسه في مواجهة مستقبله المجهول.
كميل شمعون، رجل الدولة القوي، كان رمزاً لعصر إزدهار لبنان في الخمسينيات، حيث شهدت البلاد نهضة إقتصادية وثقافية، وأصبحت بيروت مركزاً مالياً وإعلامياً إقليمياً. آمن شمعون بسيادة لبنان وعمل على توطيد مؤسساته، فكان رئيساً يسعى إلى ترسيخ دور الدولة في الداخل والخارج. في المقابل، مثّل حسن نصرالله النقيض تماماً، حيث شكّل "حزب الله" دولة داخل الدولة، مكرّساً منطق الميليشيا على حساب المؤسسات، وعمل على ربط لبنان بمحاور إقليمية أدخلته في حروب لا تخدم مصالحه الوطنية.
كان شمعون من رجال الدولة الذين سعوا إلى جعل لبنان منارة في الشرق، فدعم الإقتصاد والسياحة والتعليم، وأرسى أسس الدولة الحديثة رغم التحديات. أما نصرالله، فقد قاد حزباً جعل من السلاح وسيلة للنفوذ، واستثمر في ثقافة الموت والحزن والانتصارات الوهمية، وصولاً إلى لحظة الإنكسار التي فرضت عليه توقيع إتفاق مذل بعد حرب مدمرة مع إسرائيل.
رحيل نصرالله وخليفته هاشم صفّي الدين في ظل هزيمة عسكرية وسياسية كبيرة وواضحة يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل«حزب الله» والطائفة الشيعية في لبنان. فلطالما إعتمد الحزب على عاملين أساسيين: القوة العسكرية والقدرة على تبرير خياراته عبر سردية «المقاومة والانتصار». لكن بعد الهزيمة، يبدو أنّ السردية سقطت، ومعها القدرة على فرض الهيمنة طويلاً على الطائفة الشيعية كما في العقود الماضية.
بعد عقود من التضحيات والأثمان الباهظة، بدأت أصوات كثيرة داخل الطائفة الشيعية تتساءل عن جدوى هذا المسار. لم يعُد هناك انتصارات يُمكن التباهي بها، بل هزيمة مذلة تذكّر باتفاق القاهرة عام 1969 الذي أسّس لهيمنة الفصائل الفلسطينية على لبنان، وانتهى بحرب أهلية مدمّرة. اليوم، يجد «حزب الله» نفسه في موقع مماثل، حيث اضطر إلى القبول بشروط مذلة لوقف إطلاق النار، ما قد يؤدي إلى تآكل شرعيته تدريجياً.
على مر التاريخ، لم تكن الطائفة الشيعية طائفة مسلحة بشكل كثيف في لبنان، بل كانت جزءاً من نسيج الدولة ومؤسساتها.«حزب الله» نجح في تغيير هذا المسار لفترة، لكنه لن يتمكن من جعله مستداماً. بعد الهزيمة، سيزداد الضغط الداخلي والخارجي على الحزب لنزع سلاحه وإعادة دمج بيئته ضمن الدولة اللبنانية. ومع غياب نصرالله وصفّي الدين، سيواجه الحزب أزمة قيادة قد تدفع به إلى مزيد من التفكك والانكفاء. من الجلي أنّ أمين عام الحزب الجديد نعيم قاسم ضعيف الشخصية وقليل الأثر إن قورن بشخصية نصرالله الطاغية وحضوره القوي.
من جانب آخر، لطالما كان «حزب الله» جزءاً من المشروع الإيراني في المنطقة، لكنه اليوم يواجه واقعاً مختلفاً. إيران نفسها تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية متزايدة، وتواجه تحديات داخلية قد تجعلها غير قادرة على الاستمرار في دعم الحزب كما في السابق. هذا الواقع قد يدفع الحزب إلى إعادة النظر في استراتيجيته، أو قد يسرّع من تفككه إذا لم يتمكن من التكيف مع المتغيرات الجديدة.
لم يكن مستغرباً أن يُشيَّع نصرالله وسط بحر من الرايات السوداء والهتافات الغاضبة وعشرات الآلاف من البشر، فيما يُدفن إرثه السياسي مع جسده بعد هزيمة تاريخية. في المقابل، بقي إرث كميل شمعون حياً، لأنّ الأوطان تُبنى بالرجال الذين يكرّسون منطق الدولة، لا بمنطق السلاح والعسكرة. وبالأمس، وفي مشهد رمزي، احتضن ملعب كميل شمعون جنازة نصرالله، كأنّ لبنان الذي حلم به شمعون لا يزال شاهداً على عبثية المشاريع التي قامت على حسابه، وكأنّ التاريخ يعيد تذكير اللبنانيين بأنّ لا خلاص لهم إلا بالعودة إلى منطق الدولة.