«فرصة واختبار»... طهران على طاولة المفاوضات مع واشنطن
«فرصة واختبار»... طهران على طاولة المفاوضات مع واشنطن
هل ستكون طهران مستعدة لـ «الرضوخ» لمتطلبات الواقعية السياسية وتقديم التنازلات اللازمة لتحقيق إنفراجة حقيقية، أم أنّها ستفضل الإستمرار في سياسة حافة الهاوية؟
مع الإعلان عن جولة جديدة من المحادثات بين الولايات المتحدة وإيران المقرر عقدها في سلطنة عمان في الثاني عشر من نيسان، يعود ملف البرنامج النووي الإيراني ليتبوأ صدارة المشهد السياسي الإقليمي والدولي. تأتي هذه الجولة في ظل سياق إقليمي ودولي بالغ التعقيد، يتميز بتصاعد التوترات، وتغير موازين القوى، وتأثيرات إقتصادية متزايدة على إيران. وبينما تصرّ طهران على وصف المحادثات بأنّها «غير مباشرة» وتضع الكرة في ملعب واشنطن، تشير العديد من المؤشرات إلى أنّ الجمهورية الإسلامية تجد نفسها اليوم في موقف يفرض عليها الإنخراط بجدية في هذه المفاوضات، مدفوعة بمجموعة من الضغوط الداخلية والخارجية التي تجعل خيار «الرضوخ» – وإن كان مصطلحاً يحمل حساسية سياسية – أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى.
لا يمكن إغفال الدور الذي يلعبه وضوح الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأسلوبه الصارم في دفع إيران نحو طاولة المفاوضات. فبعيداً عن دبلوماسية «الصبر الإستراتيجي» التي اتبعتها إدارة بايدن، يتميز خطاب ترامب بالتهديد المباشر وعدم التردد في استخدام القوة أو التلويح بها. لقد أثبتت تجربته السابقة بالإنسحاب من الإتفاق النووي وفرض عقوبات مشدّدة قدرتها على إلحاق ضرر كبير بالإقتصاد الإيراني وتعطيل طموحاتها الإقليمية. إنّ احتمالية استخدام ترامب القوة تلوح في الأفق كشبح يهدد بتصعيد الضغوط إلى مستويات غير مسبوقة، مما يدفع القيادة الإيرانية إلى محاولة إستباق هذا السيناريو من خلال البحث عن تسوية تفاوضية قبل فوات الأوان. إنّ «الوضوح» الذي يتّسم به ترامب، والذي يراه البعض فظاظة، يمثل بالنسبة لإيران عامل ضغط حقيقي لا يمكن تجاهله، حيث يقلّل من هامش المناورة ويجعل التكهنات حول الخطوات الأميركية المستقبلية أكثر وضوحاً وعدائية.
يشكل الوضع الإقتصادي المتدهور في إيران أحد أهم الدوافع التي تجعل التفاوض خياراً لا مفرّ منه. فقد أدت سنوات من العقوبات الدولية المشددة، بالإضافة إلى سوء الإدارة والتحديات الهيكلية الداخلية، إلى تآكل قيمة العملة الوطنية، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وتراجع مستويات المعيشة. تعاني إيران من صعوبات جمة في تصدير نفطها وجذب الإستثمارات الأجنبية، وهما عنصران أساسيان لإنعاش إقتصادها. في ظلّ هذه الظروف، يصبح تخفيف العقوبات، ولو جزئياً، هدفاً استراتيجياً بالغ الأهمية للنظام الإيراني، حتى لو كان ذلك يتطلب تقديم تنازلات في الملف النووي. إنّ الضغط الإقتصادي المتزايد يزيد من حالة الإستياء الشعبي ويضع الحكومة تحت ضغط داخلي متصاعد لإيجاد حلول تخفف من الأعباء المعيشية، فيما التفاوض مع الولايات المتحدة يمثل أحد أبرز المسارات المتاحة لتحقيق ذلك.
على الصعيد الإقليمي، تواجه إيران تحديات متزايدة وتراجعاً شاملاً في نفوذها الذي سعت إلى بنائه على مدى عقود. ففي فلسطين، شهدت طهران تراجعًا في تأثيرها على الفصائل الفلسطينية، خاصة بعد حرب غزة الأخيرة والتحولات في التحالفات الإقليمية. وفي سوريا، وعلى الرغم من دعمها الكبير لنظام الأسد، خرجت طهران مهزومة من هناك من دون تحقيق أي هدف حقيقي لها. أمّا في لبنان، فيواجه حزب الله، الحليف الأقوى لإيران، ضغوطاً داخلية متزايدة وتحديات إقتصادية وسياسية تلقي بظلالها على قدرة طهران على استخدامه كأداة نفوذ إقليمي، خاصة بعد هزيمته المذلة أما إسرائيل. إنّ هذه الهزائم أو التحديات المتزايدة في ساحات النفوذ التقليدية لإيران تجعل القيادة الإيرانية أكثر إدراكاً لحدود قوتها وضرورة إعادة تقييم استراتيجياتها الإقليمية، حيث يمكن أن يوفر التفاوض مع الولايات المتحدة فرصة لتخفيف الضغوط الإقليمية وربما تحقيق مكاسب سياسية عبر قنوات دبلوماسية.
لطالما اعتبرت إيران برنامجها النووي ورقة ضغط قوية في مفاوضاتها مع الغرب. إلا أنّه مع مرور الوقت وتصاعد المخاوف الدولية بشأن أهداف هذا البرنامج، تحول هذا المشروع تدريجياً إلى عبء متزايد على طهران. فبدلاً من أن يكون مصدر قوة تفاوضية، أصبح البرنامج النووي سبباً رئيسياً للعقوبات والضغوط الدولية. إنّ استمرار إيران في تخصيب اليورانيوم بمستويات تقترب من الدرجة التسليحية يزيد من حدة المخاوف ويدفع القوى الغربية إلى التفكير في خيارات أخرى، بما في ذلك الخيار العسكري الذي لا ترغب فيه إيران بالتأكيد. وبالتالي، يصبح التفاوض فرصة لإزالة هذا العبء أو تخفيفه مقابل الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية.
تعكس تصريحات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بأنّ المحادثات في سلطنة عمان «فرصة بقدر ما هي اختبار» إدراكاً إيرانياً لأهمية هذه الجولة من المفاوضات. إنّها فرصة لإيران ربما لتحقيق إنفراجة في علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة وتخفيف الضغوط الإقتصادية والسياسية التي تواجهها. ولكنّها في الوقت نفسه إختبار حقيقي لمدى إستعداد إيران لتقديم تنازلات جوهرية في برنامجها النووي مقابل الحصول على بعض المكاسب. كما أنّها إختبار لمدى جدية الولايات المتحدة في تقديم حوافز حقيقية لإيران مقابل التزامها بضوابط صارمة على برنامجها النووي.
يمكن القول بأنّ إيران تجد نفسها اليوم أمام مفترق طرق حاسم. ففي ظلّ وضوح ترامب وأسلوبه الذي لا يترك مجالاً كبيراً للمناورة، والضغوط الاقتصادية المتزايدة التي تخنق اقتصادها، والتحديات المتصاعدة التي تواجه نفوذها الإقليمي، يصبح خيار الانخراط بجدية في المفاوضات مع الولايات المتحدة، وربما تقديم تنازلات مؤلمة في ملفها النووي، أقرب إلى الضرورة منه إلى الرفاهية. إنّ المحادثات المرتقبة في سلطنة عمان تمثل فرصة حقيقية لإيران لتغيير مسار الأمور وتجنّب سيناريوهات أكثر قتامة. ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: هل ستكون طهران مستعدة لـ «الرضوخ» لمتطلبات الواقعية السياسية وتقديم التنازلات اللازمة لتحقيق انفراجة حقيقية، أم أنّها ستفضل الإستمرار في سياسة حافة الهاوية التي قد تؤدي إلى عواقب وخيمة على مستقبلها ومستقبل المنطقة؟