إنتخابات بلدية على الطريقة الإقطاعية: العائلة أولاً.. والتنمية لاحقاً
إنتخابات بلدية على الطريقة الإقطاعية: العائلة أولاً.. والتنمية لاحقاً
ما يجري في الإنتخابات البلدية أقرب إلى منطق القرون الوسطى، حيث يُختصر المجتمع في عائلات نافذة، تحكم وتتحكم بمفاصل القرار. فتُخاض المعارك ليس على أساس البرامج والمشاريع، بل على قاعدة من «يحق له» الترشح، ومن «يسمح له» بخوض المعركة، في مشهد يُعيدنا إلى منطق السيد والإقطاعي، لا المواطن والمسؤول.
إنّ الأزمة اليوم ليست في القانون وحده،بل في الذهنية التي تُدار بها هذه الإنتخابات. ذهنية ترى في البلدية مكافأة لعائلة،أو غنيمة لحزب،لا وسيلة لخدمة الناس.
من يراقب التحضيرات الشعبية الجارية للإنتخابات البلدية والاختيارية في لبنان، يخيّل إليه أنّ البلاد على أبواب حدث مصيري سيغيّر توازنات الإقليم، أو ربما سيحسم الصراع الأميركي – الإيراني، أو يعيد رسم الخريطة الإقتصادية بين الصين وأميركا. كل هذا الزخم والتعبئة لا علاقة له بالتنمية المحلية أو حسن إدارة الشأن البلدي، بل يعكس حالة انفصام عميقة بين جوهر الانتخابات البلدية ومضمونها المفترض، وبين الواقع المأزوم الذي نعيشه.
في مدن وبلدات جبل لبنان والشمال وعكار، لا تلوح في الأفق أي مشاريع فعلية أو برامج انتخابية واضحة. جلّ ما نراه هو حركة ترشح عشوائية، تحركها الولاءات العائلية أو التفاهمات الحزبية، لكأنّ القرى هي مجرد مسارح لتصفية حسابات قديمة أو لتثبيت النفوذ العائلي لا أكثر. أما في الجنوب والبقاع، فالوضع لا يختلف كثيراً، وإن كان الحماس أقل، حيث لا تزال بعض القرى منهمكة بإزالة آثار الحروب والإهمال، وكأنّ الانتخابات لا تعنيها بشيء.
في جبيل وجونيه، تلبس المعركة طابعاً سياسياً حاداً، غايتها الأساسية النيل من التيار الوطني الحر. أما في طرابلس، فالفوضى السياسية هي العنوان، والكل يتحدث عن تلك المفارقة المدهشة بين غنى المدينة وفقر أهلها، دون أن يجرؤ أحد على طرح حلول عملية. أما في الكورة، زغرتا، البترون، عكار والضنية، فالمشهد أكثر عبثية: السياسة تذوب في الولاءات العائلية، والعائلة تصبح أهم من القرية، والانتماء للعشيرة أهم من الكفاءة والخبرة، حتى ليخيل للمرء أنّنا نعيش في زمن الإقطاع لا في دولة حديثة.
ما يجري أقرب إلى منطق القرون الوسطى، حيث يُختصر المجتمع في عائلات نافذة، تحكم وتتحكم بمفاصل القرار. فتُخاض المعارك ليس على أساس البرامج والمشاريع، بل على قاعدة من «يحق له» الترشح، ومن «يسمح له» بخوض المعركة. وفي قلب هذا المشهد، يقف ما يمكن تسميتهم بـ«مشايخ الزعامة» في كل قرية: أولئك الذين يجلسون في قصورهم، يتلقون الوفود، ويقررون من يترشح ومن يُقصى، في مشهد يُعيدنا إلى منطق السيد والإقطاعي، لا المواطن والمسؤول.
في ظل هذه التركيبة المشوّهة، يُغيب دور الشباب بشكل منهجي. لا يُشركون في القرار إلا عرضاً، ولا تُمنح لهم المساحات للمشاركة، وكأنّهم مجرد أدوات تعبئة انتخابية لا أكثر. رغم أنّ أغلبهم يحملون أفكاراً جديدة وطموحات تنموية فعلية، إلا أنّ الكلمة الفصل تبقى للكبار، و«الشيوخ»، والوجوه التقليدية. أما من يجرؤ منهم على الترشح، فيواجه جدراناً من الرفض الصامت أو الاستهزاء، فقط لأنّه لا ينتمي إلى العائلة «المناسبة» أو لم يخضع بعد لـ«مباركة الزعامة».
إلى جانب ذلك، يتحكم المال الانتخابي بمسار اللعبة أيضاً. لا تمر معركة انتخابية دون توزيع مساعدات أو خدمات شخصية، من تعبئة مازوت إلى دفع فاتورة استشفاء، مروراً بتوظيفات وهمية أو «هدايا انتخابية». في ظل غياب دولة الرعاية، يصبح المرشح الغني أو المدعوم هو الأقدر على كسب الأصوات، لا بفضل رؤيته، بل بفضل قدرته على الشراء. وهكذا تتحوّل الانتخابات من ممارسة ديمقراطية إلى مزاد، والمواطن من شريك في القرار إلى مستهلك للمنفعة الآنية.
تحت هذا الغطاء العائلي والسياسي، تغيب البرامج بشكل شبه كلّي. لا مشاريع صرف صحي، لا خطة لإدارة النفايات، لا مقاربة مستدامة للكهرباء والمياه، لا رؤية للتنمية الريفية أو لتفعيل دور الشباب والنساء. وعود فضفاضة وشعارات مستهلكة لا تتعدى حدود الخطابات الانتخابية المملة. أما الواقع، فهو أنّ غالبية المرشحين لا يملكون تصوراً واضحاً لبلدتهم بعد تسع سنوات من عمر البلديات الحالية، بل لا يميزون بين صلاحيات المجلس البلدي وصلاحيات المحافظ أو الوزارة.
إنّ الأزمة اليوم ليست في القانون وحده، بل في الذهنية التي تُدار بها هذه الانتخابات. ذهنية ترى في البلدية مكافأة لعائلة، أو غنيمة لحزب، لا وسيلة لخدمة الناس. ذهنية لا تزال ترفض أن تعترف بالمواطن كعنصر فاعل، له حقّ المحاسبة والمشاركة في صنع القرار.
من هنا، لا بدّ من تغيير جذري في مقاربة الانتخابات البلدية. المطلوب هو إعادة الاعتبار للمواطنة، ترسيخ مفهوم المحاسبة، وتشجيع المبادرات الشبابية المستقلة التي تملك رؤى إنمائية حقيقية. كما يجب تفعيل دور المجتمع المدني ليكون رقيباً لا متفرجاً، ضاغطاً لا مهادناً. لأنّ التنمية لا تبدأ من فوق، بل من تحت، من قلب البلدات والقرى، من بلديات قوية، شفافة، ومبنية على الكفاءة لا الولاء.
وإلا، فسنظل ندور في نفس الحلقة، وستبقى البلديات أسيرة لتفاهمات ما قبل الحداثة، تُدار بعقلية الإقطاع، وتُنتخب بعقلية «شيخ العشيرة».