البلديات المختلطة: مختبر «للطائفية العفوية» في لبنان

البلديات المختلطة: مختبر «للطائفية العفوية» في لبنان

  • ٢٩ نيسان ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

قال للناس إنّ التقاسم الطائفي هو مفتاح الإستقرار، فيما الإستقرار القائم على قمع التنافس، ليس إستقراراً حقيقياً بل هدنة هشّة. المجتمعات التي تخشى من الإختلافات، تبقى أسيرة الحذر والخوف. بينما المجتمعات القادرة على إدارة التعدّد بشفافية، هي وحدها التي تبني إستقراراً حقيقياً مستداماً.

 

في لبنان، حيث تتشابك السياسة بالعرف، وتمتزج القوانين بالأعراف الشعبية، لا تقتصر الطائفية السياسية على قصور الحكم ومجالس النواب، بل تتسرّب بهدوء إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية، وصولاً إلى أصغر خلية ديمقراطية: المجلس البلدي. ومع اقتراب موعد الإنتخابات البلدية في أيار 2025، تطل علينا من جديد ظاهرة بالغة الدلالة: تقاسم البلديات المختلطة مقاعدها وفق إنتماءات طائفية، في غياب أي نصّ قانوني يلزم بذلك، وكأنّ الطائفية السياسية باتت جزءاً من الفطرة الجماعية، لا مجرد بنية فوقية في النظام السياسي.

 

في بيروت وطرابلس، كما في بلدات ومدن أخرى، وفي عشرات القرى المختلطة، لا يُبنى التمثيل البلدي على أساس الكفاءة أو الرؤية التنموية، بل على معادلة دقيقة تُوازن بين الحصص الطائفية. رئيس بلدية مسيحي، نائبه مسلم، أو العكس، وأعضاء موزعون بين الطوائف وفق إتفاقات عرفية تفرض نفسها على الجميع. ليس ثمّة قانون يُلزم بذلك، ولكن ثمّة عرف أقوى من القانون، يقضي بأنّ لكل طائفة «حقاً مكتسباً» في التمثيل. هكذا، تتوزّع المقاعد كما تتوزّع الغنائم، ويُكتب على البلديات المختلطة أن تكون صورة مصغرة عن النظام الطائفي الكبير.

 

وراء هذا المشهد المألوف، تكمن حقيقة موجعة: الطائفية في لبنان ليست مجرد «مشكلة نظام»، بل «مشكلة مجتمع» يمكن تسميتها بالطائفية العفوية، وهي ذاك الشعور العام الذي ينتاب الناس فيقسمون كل شيء فيما بينهم. ليست الطائفية مفروضة من أعلى، بل متجذرة حقاً في الأعماق. وحين يتحالف أبناء البلدة الواحدة، بمختلف طوائفهم، على مبدأ «لك مقعد ولي مقعد»، فإنّهم يؤكدون أنّ الطائفية ليست قيداً سياسياً فقط، بل نمط تفكير، ومنهج حياة. ولهذا، فإنّ كلّ الطروحات الحالمة بإلغاء الطائفية السياسية بشخطة قلم تبدو، في ضوء هذا الواقع، مشاريع سراب.

 

إنّ أي تغيير حقيقي للنظام السياسي في لبنان لا يمكن أن يتم بقانون يصدر من فوق، ولا بتعديل دستوري فوقي، بل يجب أن ينطلق من الأساس: من الناس أنفسهم. من ثقافة مدنية جديدة تؤمن بالمواطنة لا بالطائفة، وبالكفاءة لا بالهوية الدينية. بدون ذلك، ستبقى كل إصلاحات النظام حبراً على ورق، وكل دعوات العلمنة شعارات فارغة ترتطم بجدار العادات والأعراف ومشاعر الناس.

 

في بلدية بيروت، يتكرس العُرف الذي يوزع المناصب البلدية بين المسلمين والمسيحيين، بنسب شبه ثابتة. في رياق، البلدة البقاعية ذات النسيج المتعدّد، يتمّ الإتفاق قبل كلّ إنتخابات على تقاسم رئاسة البلدية وكافة الأعضاء بين الطوائف الأساسية في البلدة. في قرى أخرى مثل حدتون، وزحلة، وراشيا، تتكرر الصورة: توافقات عرفية تحفظ «التوازن الطائفي» وتُقدَّم للناس كضمانة للوئام الأهلي، في حين أنّها، في جوهرها، قيد يحول دون التعبير الحرّ عن إرادة الناخبين.

 

يُقال للناس إنّ هذا التقاسم هو مفتاح الإستقرار، ولكن الحقيقة أنّ الإستقرار القائم على قمع التنافس، ليس إستقراراً حقيقياً بل هدنة هشّة. المجتمعات التي تخشى من الإختلافات لا تنضج، بل تبقى أسيرة حسابات الحذر والخوف. بينما المجتمعات القادرة على إدارة التعدّد بوسائل ديمقراطية شفافة هي وحدها التي تبني إستقراراً حقيقياً مستداماً.

 

حين توزّع البلديات المختلطة مناصبها عائلياً أو طائفياً، فهي تؤكد أنّ الطائفية في لبنان ليست ظاهرة سياسية طارئة يمكن إقتلاعها بسهولة، بل هي نمط متجذر يحتاج إلى ثورة ثقافية صامتة تبدأ من العقول، لا من النصوص. تبدأ من أن يتجرأ المواطنون على التفكير بأنفسهم لا بطوائفهم، وعلى انتخاب ممثليهم بناء على برامج لا بطاقات تعريف دينية.

 

ولهذا، فإنّ أي مشروع لإصلاح النظام السياسي اللبناني لا بدّ أن يبدأ من القاعدة: من البلديات، من المدارس، من العائلات، من النوادي والهيئات المحلية. لا معنى لدستور علماني إذا كانت القرى والمخاتير والمجالس البلدية لا تزال تُدار بمنطق الطائفة أولاً. ولا طائل من تعديل النظام السياسي قبل تعديل العقلية السائدة.

 

إنّ الطريق إلى لبنان مدني حقيقي يمرّ عبر إصلاح الحياة اليومية، عبر تعويد الناس على ثقافة الإختيار الحر، والمنافسة النزيهة، والإحتكام للبرامج لا للعشائر والطوائف. حين يصبح رئيس البلدية هو الأكفأ لا الأوفق طائفياً، وحين يصبح الناخب يبحث عن الأفضل لا عن إبن طائفته، آنذاك فقط يمكن أن نبدأ بالكلام الجدي عن إلغاء الطائفية السياسية.

 

حتى ذلك الحين، سنظلّ نكرر المشهد ذاته: بلديات تتقاسمها الطوائف بلا نصوص، ومجالس تبنى على المحاصصة لا على الرؤية، وبلد يُدار بالتسويات الهشة لا بالمؤسسات الصلبة. وما لم نكسر هذه الحلقة المفرغة من الأسفل، سيبقى التغيير من الأعلى وهماً لا يتحقق، وشعاراً يتردّد في المؤتمرات والندوات التي تموّلها المنظمات الأجنبية التي لا تفقه شيئاً عن لبنان، لكنه لا يجد طريقه إلى أرض الواقع.

 

إنّ الديمقراطية لا تعني التفاهم على اقتسام الغنائم، بل تعني التنافس على خدمة الناس. والسلم الأهلي لا يعني تقاسم الحصص، بل إدارة الإختلاف بشفافية وعدالة. وإذا أردنا حقاً أن نبني دولة تتخطى الطائفية، فعلينا أولاً أن نبني مجتمعات مدنية. فهل نحن مستعدون لهذه المهمة الصعبة؟ بالطبع لا.