إنتخابات بلا مواطنين: العائلة تختار... والحزب يبارك
إنتخابات بلا مواطنين: العائلة تختار... والحزب يبارك
جبل لبنان الذي تشكلّت فيه النواة الأولى للتعدّدية وفكرة لبنان الحديث واحتضن النخب الفكرية، بدا أمس في الإنتخابات البلديّة كأنّه طوى صفحة الريادة، واختار العودة إلى زمن العشيرة والعائلة.
في جبل لبنان، حيث سُطِّرت أولى حكايات التعددية، وتشكّلت النواة الأولى لفكرة لبنان الحديث، جرت بالأمس إنتخابات بلدية وإختيارية كشفت عن مفارقة مؤلمة: الحيّز الجغرافي الذي كان تاريخياً محرّك التغيير، ومختبر التجارب الوطنية، عاد ليتصرف كقرية كبيرة تحكمها الأعراف، وتُسيّرها العائلات، وتتحكم بمصيرها الولاءات القديمة.
جبل لبنان الذي أطلق شرارة التعليم الحديث، واحتضن أوائل الصحف والأحزاب، وأنجب النخب الفكرية التي بشّرت بالحرية والدستور، بدا في هذه الإنتخابات وكأنّه طوى صفحة الريادة، واختار العودة إلى زمن العشيرة والعائلة. نعم، فاز حزب القوات اللبنانية في غالبية القرى والبلدات، وحصد التيار الوطني الحرّ بعض المقاعد، لكن الحقيقة الأهم تكمن في المسكوت عنه: لا أحد فاز فعلاً إلا العائلات. لا برنامج انتصر، ولا خطاب تنموي أقنع الناخبين. الذي أقنعهم، كالعادة، هو إسم العائلة، سيرة الجد، وعدد الأصوات المضمونة في دائرة القرابة.
إنّ الحقيقة الأعمق لما شهده جبل لبنان بالأمس تكمن في ما وراء اللون الحزبي: من الذي اختار؟ ولماذا؟ في معظم الحالات، لم يُصوّت الناس على أساس الإنتماء الحزبي الصرف، بل على قاعدة: «فلان من بيتنا»، «إبن عمّي أولى»، «هؤلاء ناسنا». وكأنّنا في مشهد من مسلسل «صراع العروش» بنسخته اللبنانية: العائلة أولاً، وكل شيء بعد ذلك تفاصيل. ممالك صغيرة تتوزع في القرى، أمراء صغار يُورّثون الحكم في صناديق الإقتراع، وعشائر تستحضر مجدها الإنتخابي بوشاح حزبي خفيف فوق عباءة السلالة وروابط الدم.
هذه ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل بنية عميقة في قلب المجتمع اللبناني. وفي مشهد يُفترض أن يكون مدنياً، سياسياً وحزبياً بامتياز، ينقلب المنطق رأساً على عقب. فبدلاً من أن تختار الناس مرشحيها بناءً على برامجهم، يختار المرشحون عائلاتهم أولاً، ويضع أرباب العائلات عليهم «ديكوراً حزبياً» يليق بالمرحلة. القوى السياسية تدرك هذه الحقيقة وتتكيّف معها: تتحالف مع العائلات لا ضدها، تُسايرها لا تواجهها، تُراهن عليها لا على التغيير.
فهل نحن أمام رجعية؟ أم أمام تقليد اجتماعي متجذّر؟ وهل ثمة فرق أصلاً بين الإثنين؟ في بلدٍ يتغذّى على الذكريات ويهاب المستقبل، لا عجب أن تكون العائلة هي الثابت الوحيد في معادلة سياسية متحوّلة. فهي الأمان، والمرجعية، والمستودع العاطفي لكل الإنتماءات. ولكن، في الوقت نفسه، هي السقف الذي لا يمكن تجاوزه، والعائق الذي يمنع التجديد الحقيقي.
الإنتخابات الأخيرة تُعيد طرح السؤال الوجودي نفسه: كيف يمكن أن نبني نظاماً حقيقياً، إذا كانت البُنى العائلية لا تزال تفرض سلطتها على خيارات الناس؟ كيف نقنع المواطن بفضيلة الكفاءة، إذا كان الولاء للعائلة هو معيار الشرف؟ بل كيف نكتب قوانين عصرية، إذا كان الناس لا يزالون يختارون مخاتيرهم كما كانوا يفعلون قبل مئة عام، بالإجماع العشائري لا بالتصويت الفردي؟
إنّ ما نشهده في جبل لبنان ليس إنحرافاً ديمقراطياً بل صورة طبق الأصل عن لبنان كما هو: بلد لا تزال فيه الدولة فكرة هشة، والمجتمع أقوى من القانون، والروابط الدموية أمتن من معيار الكفاءة. بلد تُمارَس فيه الديمقراطية بأدوات القرابة، ويُعاد تدوير السلطة من جيل إلى جيل عبر أسماء العائلات، لا عبر صناديق الأفكار.
وإذا كان هذا هو حال جبل لبنان، فماذا ننتظر من الإنتخابات المقبلة في محافظات أكثر التصاقاً بالنسيج العائلي؟ في الشمال، حيث العائلة تعني الإمتداد، والزعامة تتوارث كما تُورث الأرض. وفي عكار، حيث المخاتير هم وجهاء الطوائف لا خُدّام الناس. وفي الجنوب، حيث الولاء السياسي يختلط بالوفاء العائلي. وفي البقاع، حيث السلاح والسياسة يلتقيان في فناء الزعامة الوراثية…
ومثلما كرّست الطوائف حضورها في النظام السياسي اللبناني، فإنّ العائلات تكرّس اليوم ما لا تقوله القوانين: إنّ السياسة في لبنان ما تزال شأناً عائلياً بامتياز. وحين تتزيّن العائلة بغطاء حزبي، فإنّها تفعل ذلك لتُثبت حضورها لا لتتنازل عنه.
وهكذا، تتحوّل الديمقراطية إلى إحتفال فولكلوري، وتُصبح الإنتخابات محطة لتجديد الولاء للعائلة لا لاختيار الأفضل. الأحزاب نفسها لم تعُد تخوض الإنتخابات بوصفها قوى تغيير، بل كوسطاء بين العائلات، توزّع التزكيات، وتُساير التقاليد، وتُدرك جيداً أنّ من يواجه العائلة يخسر، ولو حمل أفكار الأنبياء وبرامج الرُسل.
لقد آن الأوان أن نسأل بجرأة: هل نحن فعلاً نعيش في نظام ديمقراطي، أم في نظام عائلي يتخذ من الديمقراطية واجهة؟ وهل الإنتخابات البلدية في لبنان هي تمرين على المواطنة، أم مجرد تجديد للبيعة بين أبناء العم والخال؟
حتى ذلك الحين، ستبقى البلديات تُصاغ في المجالس العائلية قبل أن تُعلَن في أقلام الإقتراع، وسيبقى الناخب اللبناني، مهما ارتدى من شعارات عصرية، ذلك القروي الذي لا يخذل إبن عشيرته. وما دامت المعركة تُحسم على مائدة الغداء العائلي قبل أن تبدأ على ورق اللوائح، فكل حديث عن الإصلاح يبدو ترفاً لا مكان له في واقع يُشبه الماضي أكثر مما يُبشّر بالمستقبل.
إنّ ما جرى في جبل لبنان ليس فقط فوزاً انتخابياً لحزب أو لعائلة، بل خسارة سياسية لفكرة التقدّم نفسها. وما سيجري قريباً في الشمال والبقاع والجنوب، سيكون حتماً أكثر عائلية... وطبعاً أقل ديمقراطية.