طرابلس تنتخب... بلدية من رحم الشك
طرابلس تنتخب... بلدية من رحم الشك
في طرابلس، المدينة التي طالما اختبرتها الدولة اللبنانية فخذلتها، جرت انتخابات بلدية واختيارية كان يُفترض أن تعيد للناس بعضاً من الثقة، فإذا بها تتحوّل إلى مشهد إضافي من فصول الانهيار: صناديق اقتراع بلا نتائج، لجان فرز تُبدّد أصوات الناس بدل أن تُحصيها، ومحافظ شمالٍ بدا كأنّه ضيف على فوضى لم يُحسن لا ضبطها ولا حتى تبريرها.
في 11 أيار، وبينما كانت باقي المدن اللبنانية تطوي أوراق اقتراعها وتُعلن مجالسها المنتخبة، كانت طرابلس تغرق في دوامة فرزٍ لم تنتهِ إلا بعد أكثر من سبعين ساعة، وفي ظل توترٍ ميداني بلغ ذروته عند أبواب قصر العدل. لعلّها المرة الأولى التي تتحوّل فيها العملية الانتخابية إلى تمرين أعصاب لا اختبار ديمقراطية. والأنكى، أنّ ذلك جرى في مدينة لم يشارك في انتخاباتها أكثر من 27% من الناخبين، وكأنّ الغالبية قرّرت مسبقاً أنّ لا شيء سيتغيّر... وكانت على حق.
طرابلس ليست مدينة عادية في الجغرافيا اللبنانية. هي العاصمة الثانية، بوابة الشمال، مستودع الطاقات المهدورة والوعود الكاذبة. ولأنها كذلك، فقد تعلّمت أن تشكّ في كل ما يأتي باسم الدولة: إنماء غائب، أمن موسمي، مؤسسات لا تزورها إلا في موسم الانتخابات. ولعل ما جرى مؤخراً خير دليل على هذا الإرث المزمن من الإهمال الممنهج.
ففي الوقت الذي نجحت فيه وزارة الداخلية بإدارة العملية الانتخابية في أغلب قرى ومدن جبل لبنان والشمال – وسط ظروف أمنية وسياسية واقتصادية ليست سهلة – فإنها فشلت فشلاً ذريعاً في طرابلس. والسبب لا يعود إلى الوزارة ككل، بل إلى خيبة محلية اسمها رمزي نهرا. هذا المحافظ الذي يفترض أن يكون رأس الإدارة التنفيذية في الشمال، وقف عاجزاً أمام الفوضى، متفرجاً على لجان قيدٍ متخبطة، وأقلام بلا مندوبي لوائح، وخروق بالجملة وثّقتها "لادي"، وأصوات اختلطت ببعضها حتى ضاعت معها الحقيقة. محافظ لا يطل من شاشات الإعلام إلا عندما يريد أن يبرر فشله، ويغيب عندما يحترق الميدان. محافظ مكروه من أبناء الشمال وتحوم حوله عشرات القضايا المرتبطة بالفساد وسوء الإدارة.
ما حدث في طرابلس لم يكن زلّة إدارية، بل انكشاف بنيوي: مدينة بحجم طرابلس تُدار بعقلية القرية، ويُترك أمر انتخاباتها لموظفين بلا تدريب كاف، ولجان بلا رقابة حقيقية، ومحافظ لا يحسن ضبط الإيقاع. وحين يتقدم الناس باعتراضاتهم، لا يجدون مسؤولاً يسمع أو قاضياً يبتّ، بل يواجهون جدراناً من الغموض الإداري والالتباس القانوني، وبيانات رسمية لا تقنع حتى مُطلقيها.
وفي قلب هذه الفوضى، يتقدم بعض الرابحين للاحتفال بالنصر، فيما البلدية التي يفترض أن تُدار باسم المدينة، تولد من رحم الشك، ومن صندوقٍ لا يطمئن إليه أحد. لقد تحوّلت الانتخابات في طرابلس من مناسبة لإعادة الوصل بين المواطن والدولة، إلى مناسبة جديدة لتعميق الشرخ، وترسيخ القناعة بأنّ هذه المدينة ليست على خارطة الإنماء، ولا على خارطة العدالة الانتخابية.
وليس أدل على ذلك من المشهد الذي جرى في جبل محسن، حيث احتفل العلويون بفوز ثمانية مخاتير دفعة واحدة، فيما السُنّة انقسموا بين لائحتين ومرارة من مشهد لم يألفوه. في طرابلس، حتى نتائج الانتخابات تثير العصبيات، وكأنّ المدينة محكومة بإعادة إنتاج التوتر، ولو بثياب ديمقراطية.
وإذا كان بعض المسؤولين قد سارع لنزع فتيل الانفجار – كما فعل وزيرا الداخلية والعدل – فإنّ أصل المشكلة لا يُحلّ بزيارة ليلية لقصر العدل، بل بمراجعة عميقة لدور المحافظ، وآلية تعيينه، ومحاسبته، لا سيما حين يُظهر كل هذا الفشل في إدارة استحقاق أساسي.
فكيف يمكن لطرابلس أن تثق بالدولة، إذا كانت الدولة نفسها عاجزة عن إحصاء أصوات أبنائها؟ وكيف يمكن أن تُقنع الدولة المواطن الطرابلسي بالمشاركة السياسية، إذا كانت أصواته تُهمَل، ومحاضر فرزه تُشوّه، ونتائجه تُدار خلف أبواب مغلقة؟
ليست المشكلة في مَن فاز ومن خسر. المشكلة في أن العملية برمتها بدت كأنها تمرين على التزوير لا على الديمقراطية، وكأن طرابلس خُلقت لتكون الاستثناء، دائماً وأبداً. الاستثناء في الأمن، في الإنماء، في الحقوق، وفي الانتخابات.
وإذا كانت الانتخابات البلدية هي محطة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، فإنّ ما جرى في طرابلس هو ضربة لتلك الثقة، ونسفٌ لما تبقّى من أمل. والمؤسف أكثر، أنّ لا أحد يُحاسَب، ولا أحد يُقال، رغم أنّ مدينة كاملة بقيت رهينة نتائج لم تُحسم، وأصوات لم تُحصَ، وناس لم تُحترم.
طرابلس التي أنجبت قادة ورجال فكر وثقافة، تستحق إدارة أفضل من هذه. تستحق محافظاً يعرف كيف يُدير، لا كيف يتوارى. وتستحق انتخابات تُحترم فيها إرادة الناس، لا تُصادر على أيدي مسؤولين لا يعرفون من الديمقراطية سوى اسمها.
وفي انتظار ذلك، ستبقى طرابلس تدفع ثمن تهميشها، مرة عبر صندوق اقتراع، ومرة عبر صندوق إنماء لم يُفتح بعد.
لكن ما يجب أن يفهمه الجميع، هو أنّ مدينة بهذا الغليان، لا يمكن إهمالها مراراً وتكراراً، دون أن تُنذر بشيء أكبر من خسارة بلدية... قد تنذر بخسارة الدولة نفسها.