مسيحيو الشرق في مواجهة التحدي: بين ذاكرة الأقليات ومشاريع البقاء
مسيحيو الشرق في مواجهة التحدي: بين ذاكرة الأقليات ومشاريع البقاء
المسيحيون، رغم كل الصعوبات، ما زالوا يملكون الإمكانات الفكرية والتاريخية والاقتصادية لتقديم نموذج بديل يُبقي للشرق طابعه التعددي، ويمنع تحوّله إلى صحراء عقائدية مغلقة.
تُعدّ مشكلة الأقليات الوجه الأبرز لما عُرف تاريخياً بـ«المسألة الشرقية»، وهي المسألة التي شغلت الرأي العام المحلي والأوروبي لأكثر من قرن. والسؤال المزمن الذي لم يزَل يتردد في أروقة السياسة والمجتمعات: كيف يمكن للجماعات الأقلوية أن تحيا وجودها، وتحفظ حريتها وأمنها، وتحصل على حقوقها الكاملة ضمن دول طالما مارست االإلغاء المقنّع ضدّ الأقليات؟
تاريخياً، شكّل المسيحيون جماعات أقلوية في مختلف دول الشرق الأوسط، بعد أن كانوا سابقاً الأكثرية الأوتوكتونية في المنطقة. وبالتالي، فإنّهم يمثلون عنصراً أساسياً من عناصر المسألة الأقلوية، وهم لا يزالون حتى اليوم يعانون من أشكال مختلفة من التهميش والضغط
بين الجغرافيا والهوية: تحديات البقاء
تتعرض الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط إلى سلسلة من التحديات المعقّدة، تبدأ من محاولات اقتلاعها جغرافياً من مواطنها الأصلية وحرمانها من علاقتها بالأرض، ما يجعلها أكثر عرضة للتفكك والذوبان. يضاف إلى ذلك التحدي الديمغرافي، إذ تُستهدف هذه الجماعات في عددها عبر وسائل مثل التهجير القسري، أو التجنيس والتوطين، بهدف تقليص حجمها وتفتيت وجودها.
ولا تقف التحديات هنا، بل تُفرض على المسيحيين هويات أخرى بالقوة، في محاولة لمسخ وعيهم الذاتي، وهو ما يُعرف بالتحدي الإثني. وتُضاف إلى ذلك الضغوط اللغوية، حيث يتم تهميش لغات الأقليات التي تُعد من ركائز هويتها الثقافية والدينية، كما تُفرض عليها أنماط حياة محددة تتنافى مع خصوصيتها، في تحدٍ سوسيولوجي واضح.
الأكثرية شريك في المسؤولية
ببساطة، فإنّ الأكثرية الحاكمة في دول المنطقة تتحمل مسؤولية مباشرة عن وضع الأقليات، وهي المعنية أولاً وأخيراً بإيجاد حلول جذرية تحفظ التنوع وتحمي حقوق جميع المكونات. إلا أنّ الطريق إلى الحل محفوف بعوائق ثلاث رئيسية.
أولى هذه العوائق هي إسرائيل، التي تقدّم نفسها كزعيمة الفكر الأقلوي في المنطقة، وتدعم توجهات تفرّق ولا توحّد، من أجل ضمان صفاء هويتها اليهودية وفرض نفسها كقوة دافعة للتقسيم في الشرق. أما العائق الثاني، فيتمثل في الأصوليات الدينية، خصوصاً الإسلامية، التي تصاعدت بعد انهيار الإيديولوجيات القومية واليسارية، وتكرّس خطاب الهوية الدينية المغلقة بدلاً من التعددية. والعائق الثالث، والأكثر تعقيداً، هو مصالح الدول الكبرى التي لا تريد للشرق الأوسط أن يستقر، فتستثمر في مشكلاته وتغذّي انقساماته لتأمين مصالحها الاستراتيجية.
التجربة اللبنانية: مشروع رائد... وفرصة ضائعة؟
على الرغم من قتامة الصورة، لا يمكن إغفال التجربة اللبنانية كمحاولة رائدة لإيجاد صيغة تعايش تحفظ التنوع، وتؤمّن شراكة فعلية بين مكوناته. فقد شكّلت هذه التجربة، من ميشال شيحا إلى رفيق الحريري، لحظة نادرة في تاريخ المنطقة، حيث اتُّخذت صيغة "لبنان الرسالة" نموذجاً للتفاعل بين المسيحيين والمسلمين. لكن، إلى أي مدى استطاع لبنان فعلاً أن يشكّل حلاً لمشكلة الأقليات؟
حتى اللحظة، لم يبرز أي مشروع متكامل يجيب بوضوح عن هموم وتطلعات المسيحيين في الشرق الأوسط، والمبادرات الكنسية والمجتمعية ما زالت تتحاشى الغوص في السياسي، رغم أنّ أصل الصراعات سياسي بامتياز وإن تنكّر بلباس ديني. وكما ورد في وثائق الجمعيات الخاصة بمسيحيي لبنان، فإنّ المسيحيين يعانون من انقسامات حادة سياسياً وطائفياً، ما يمنعهم من بلورة مشروع جامع.
يقول الكاتب شارل مالك إنّ مشكلة الأقليات المسيحية هي "مشكلة دهرية"، لكنها لم تجِد بعد مشروع خلاص يواجه التحديات الفكرية، اللاهوتية، والجيوسياسية التي تهدد الوجود المسيحي برمّته.
التعليم: رأس المال الأهم... والمنهك
إذا كان المسيحيون في الشرق الأوسط قد فقدوا الكثير من أدوات القوة السياسية والديموغرافية، فإنّهم احتفظوا لفترة طويلة بسلاح فاعل: التعليم. فقد كان التعليم العماد الأساسي للإقتصاد المسيحي في المنطقة، وركيزة للرأسمال البشري. أسّسوا المدارس والجامعات، واستثمروا في الكفاءات، وكانوا من أوائل من فهموا أن التعليم هو استثمار استراتيجي.
هذا الاستثمار جعل منهم فئة اختصاصية مطلوبة في مجالات شتى، من القضاء والإدارة، إلى التعليم والطب والهندسة. لكن هذه الميزة أخذت تتراجع منذ ثمانينات القرن الماضي، عندما بدأت الدول العربية بتطوير قطاعاتها التعليمية الخاصة، ما أفقد المسيحيين ميزة الندرة والتفوق النسبي، وفاقمته موجات الهجرة الواسعة التي نزفت معها الطاقات والكفاءات.
المؤسسات الإقتصادية: من الازدهار إلى المصادرة
لم يكن الحضور المسيحي في الاقتصاد هامشياً. فقد لعب رجال الأعمال المسيحيون، من صناعيين وتجار ومصرفيين، أدواراً جوهرية في اقتصادات دولهم، ووفّروا فرص عمل حافظت على وجود المسيحيين في أرضهم. لكن المدّ الاشتراكي الذي اجتاح عدداً من الأنظمة في خمسينات وستينات القرن الماضي، أتى بسياسات التأميم التي قضت على مؤسسات مسيحية عريقة، فخسر الكثيرون استثماراتهم، واضطروا إلى الهجرة نحو دول أكثر ليبرالية كلبنان أو الغرب.
ورغم مساهمتهم اللاحقة في إعادة بناء اقتصاد لبنان خلال الحرب الأهلية، فإنّ حضورهم في دول المنطقة لا يزال هشاً، بسبب التمييز في التوظيف، أو بسبب الولاء السياسي المفروض كشرط للمشاركة في القطاع العام.
اخيرا مشكلة الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط ليست مجرّد أزمة آنية، بل هي معركة مستمرة من أجل البقاء، تتقاطع فيها التحديات الديموغرافية والثقافية والسياسية والاقتصادية. ولعلّ ما هو مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى هو مشروع فكري شامل، يعيد صياغة العلاقة بين الجماعات الأقلوية والأكثريات الحاكمة، ويضع أسس شراكة حقيقية تقوم على الاعتراف لا الاستيعاب، وعلى التعددية لا التفوق، وعلى المواطنة لا الذوبان.
فالخطر الحقيقي ليس في التهميش فحسب، بل في الاستسلام له بوصفه قدراً. والمسيحيون، رغم كل الصعوبات، ما زالوا يملكون الإمكانات الفكرية والتاريخية والاقتصادية لتقديم نموذج بديل يُبقي للشرق طابعه التعددي، ويمنع تحوّله إلى صحراء عقائدية مغلقة.
المراجع
.Khalifeh, N. (2011). Christians of the Middle East: A Geopolitical Study
. Balta, Paul, « L'exode des chrétiens d'Orient »in Confluences Méditerranée 2004/2 (N°49), pp. 161- 165.
· Blanc, Pierre « Les Arabes chrétiens, miroirs des échecs politiques du monde arabe »**
· 2009/1 (N° 93), pp.9 – 21.
· Fleyfel, Antoine, Géopolitique des chrétiens d’Orient. Défis et avenir des chrétiens arabes, l’Harmattan, 2013, pp.184-185.
· FMI, Perspectives de l’économie mondiale, 2020.
· Heyberger, Bernard, « Les chrétiens d’Orient entre le passé et l’avenir », in Les Cahiers de l'Orient
· Ignacio Fuente Cobo, “Christians of the Orient” (I): who are they?, where do they come from?, how many of them are there? In Analysis 18th March, 2015, Spanish Institute of Strategic Studies.