نواف «بيك» سلام... رجل شجاع
نواف «بيك» سلام... رجل شجاع
المفارقة أنّ هذا الرجل، الذي لا يملك حزباً، ولا قناة إعلامية، ولا ماكينة ترويجية، هو الحاكم الوحيد الذي قال ما لم يجرؤ الآخرون على قوله. والوحيد الذي قرّر أن يقود معركة الدولة.
في بلد إعتاد أن يُدار بالصفقات الهشة والتسويات الرمادية، برز نواف سلام كمن يشقّ طريقاً في صخر أصمّ. بلا ضجيج الشعارات، بلا دهاء المناورات، بلا حسابات الوقت الضائع. رجل بوجه مكشوف، وخطاب بلا ظِلال، وقرار لا يشبه ما اعتاده اللبنانيون من تردّد وتذاكٍ سياسي.
منذ اللحظة الأولى لتسلّمه رئاسة الحكومة، رسم خطاً واضحاً لا يقبل التأويل: السيادة ليست مادة للنقاش، والسلاح الخارج عن الشرعية ليس تفصيلاً قابلاً للتأجيل، والقرارات الدولية ليست أدوات تفاوض، بل إلتزام صريح تُقاس به جدّية الدولة وكرامتها.
مشى أسرع من رئيس الجمهورية جوزف عون، وفي حقل ألغام يعرف تضاريسه جيداً. لم ينتظر تطمينات من الخارج، ولا صفقات من الداخل. لم يساوم على كلمته، ولم يؤجّل معركته. منذ اللحظة الأولى، قالها صريحة: لا دولة بظل سلاح غير شرعي، ولا حكومة بظل ازدواجية أمنية وعسكرية، ولا سيادة في ظل طغيان فئة على الدستور، والمؤسسات، والناس.
لم يخَف، ولم يُهادن، ولم يُقايض. وهو، إن كان يجهل شيئاً، فلا يجهل موازين القوى التي تحكم البلد منذ سنوات. يدرك تماماً من بيده السلاح، ومن يملك القدرة على التعطيل، ومن يُمسك بخيوط الفوضى. لكنه، رغم ذلك، لم يتردد. لم يُراوغ كما فعل من سبقوه، ولم يهرب إلى مفردات خشبية من قبيل «الحوار» و«الخصوصية» و«المعادلة الذهبية». هو من قماشة مختلفة، ومن منطق لا يعرف المراوغة.
أمس، إجتمعت الحكومة. قرار واحد تصدّر المشهد: لا سلاح إلا بيد الجيش اللبناني. لا وجود مسلح لأي فصيل، لا «مقاومة» ولا «مقاومون» ولا «حرب إسناد». الدولة وحدها، هي من تُمسك بالأمن، وهي من تُعلن الحرب، وهي من تُوقّع السلام. حضر الوزراء الشيعة، ثم انسحبوا. لم تتعطّل البلاد، ولم تتوقف الساعة. لأنّ نواف سلام، ببساطة، يعرف جيداً أنّ الميثاقية لا تُختصر بطائفة، ولا تُختطف بمقاطعة.
في بلاد اعتادت على «الفيتوهات»، وعلى تعطيل المؤسسات بـ«الثلث الضامن»، وعلى تخويف الرؤساء بشارع مسيّس وبندقية جاهزة، أتى رئيس الحكومة هذا لا بسلطة القمع، بل بسلطة الحق. لا يستند إلى شارع، بل إلى منطق الدولة. لا يحتمي بطائفة، بل بالدستور. لا ينتظر موافقة «الأقوياء»، بل يقرّر بإسم الناس الذين سُحقوا، وجاعوا، وتعبوا من السلاح الذي ازدهر طويلاً على حساب إستقرارهم.
هو لا يطلب مكافأة، ولا يركض خلف صورة في الإعلام. هو، ببساطة، رجل يعرف أنّ لحظة الحقيقة لا تُؤجَّل. وأنّ السلاح الذي فُرض على البلاد منذ عقود، لا يسقط بصفقة، بل بموقف. وأنّ كرامة الدولة لا تُستعاد بتسوية، بل بإرادة.
ولعل شجاعته الأهم، هي في كونه لم يأتِ من خلفية شعبوية، ولم يقدّم خطاباً ليرضي الشارع أو يغري الخارج. هو قادم من قلب القانون، من عمق المؤسسات الدولية، من عقل يعرف كيف تصاغ الشرعيات، وكيف تُبنى الدول. يعرف أنّ لبنان لا يمكنه أن يستمر رهينة لطرف لا يعترف إلا بقوته، ولا يحتكم إلا لسلاحه. ويعرف، أكثر من غيره، أنّ تأجيل المواجهة هو موت بطيء لوطن لم يعد يحتمل.
لقد خُذل نواف سلام كثيراً. حين طُرِح إسمه لرئاسة الحكومة قبل سنوات، اجتمعت عليه السكاكين: رفضه الحزب، تحفظ عليه «المعتدلون»، هاجمه بعض «المستقلين»، وتآمر عليه من ادعى تأييده. ربما لأنّه لم يكن قابلاً للشراء، ولا للترضية، ولا للسكوت. ولأنّ نواف سلام، ببساطة، لا يُطمئن المليشيات، ولا يُريح أصحاب الصفقات، ولا يصلح واجهة لحكم لا يحكم.
ومع ذلك، بقي. لم يتخلَّ، لم ينكفئ، لم يتلوّن. واليوم، وقد عاد رئيساً للحكومة، أتى ومعه مشروع كامل: إعادة الإعتبار لفكرة الدولة. فكرة بدت لعقود وكأنّها حلم مستحيل في بلاد تحكمها المعادلات الفوقية والولاءات العابرة للحدود.
المفارقة أنّ هذا الرجل، الذي لا يملك حزباً، ولا قناة إعلامية، ولا ماكينة ترويجية، هو الحاكم الوحيد الذي قال ما لم يجرؤ الآخرون على قوله. والوحيد الذي فعل، لا فقط تكلم. والوحيد الذي قرّر أن يقود معركة الدولة، ولو كلّفته ذلك عزلة، أو تهديداً، أو استقالة مبكرة.
لكنه يعرف، كما نعرف جميعاً، أنّ هذه المعركة لا تُقاس بعدد الأنصار، بل بصدق القضية. وأنّ الرجال الحقيقيين لا يُعدّون بأصواتهم في الشارع، بل بمواقفهم في لحظة الحقيقة.
نواف سلام لم يُهدّد، لم يُلَوّح، لم يتوسّل. قال كلمته ومضى. وحين اجتمعت الحكومة، لم يسمح بأن تُبتز. لم يرضَ أن تُعلّق المقررات على مزاج حزب، ولا أن تُغرق الدولة في وهم «الميثاقية التعطيلية». قالها ببساطة: إما أن نحكم كدولة، أو ننسحب بشرف.
واليوم، يعرف «حزب الله» وأخته العجوز، «حركة أمل»، أن ما جرى ليس قراراً عادياً. هو شرخ في جدار الهيبة المصطنعة. هو أول «لا» صريحة تُقال منذ زمن. لا للخوف. لا للسلاح. لا للإزدواجية. لا لمن صادر القرار، وكمّم الأفواه، وأدخل البلاد في حروب لا تنتهي.
لقد تغيّرت قواعد اللعبة. الشعب لم يعُد أسير الشعارات، ولا قابل أن يبيع أمنه مقابل «معادلة وهمية». والقيادات، أو بعضها على الأقل، بدأت تدرك أنّ الزمن تغيّر، وأنّ الحزب الذي أخضع المؤسسات، وفصّل الحكومات، وعيّن الرؤساء، لم يعُد مطلق اليد.
في هذا الزمن، لا نحتاج إلى زعماء جدد، بل إلى رجال دولة. إلى من يملكون الشجاعة لا الشعبوية. إلى من يعرفون أنّ الحق، وإن بدا وحيداً، أقوى من ألف شعار فارغ.
نواف «بيك» سلام، في قامته السياسية وأفعاله، لا يصيح في الميادين. بل يكتب تاريخه بجرأة موقف. وفي بلد أنهكته الزعامات، وباعته الأحزاب، وخذلته النخب، قد يكون هذا الرجل، الذي لا يملك إلا شجاعته، هو الفرصة الأخيرة لاستعادة حقيقية لفكرة الدولة وفكرة الوطن.