دروز السويداء.. علم «الشيطان» بوجه المجزرة
دروز السويداء.. علم «الشيطان» بوجه المجزرة
في سوريا من يريد البقاء على قيد الحياة، فسيكتشف عاجلاً أو آجلاً أنّ النجاة لا تأتي من دمشق، بل من كسر مركزيتها. السويداء رفعت راية إسرائيل، غيرها قد يرفع رايات أخرى. كلٌّ سيبحث عن خلاصه، وسيجد لنفسه «شيطاناً» يعقد معه صفقة حياة.
ما حدث في السويداء منذ أيام لم يكن تظاهرة عابرة، ولا إنفعالاً مؤقتاً في لحظة غضب. كان صرخة وجود، فعل حياة في مواجهة ماكينة موت. فرفع الأعلام الإسرائيلية لم يكن إحتفالاً بالإنضمام إلى «العدو»، بل إعلاناً صارخاً: نحن نريد أن نعيش. المجازر التي ارتكبها الحكم السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع لم تترك مساحة للرمادي. حيث يُحاصرك الموت من كل إتجاه، والدم يغطي الأرض، لا يلام شعب يرفع أي راية تتيح له النجاة.
في زمن الدم، لا معنى للشعارات الكبرى. كل ما قيل عن «الوحدة الوطنية» و«السيادة» و«الممانعة» يتهاوى أمام مشهد العائلات التي دُفنت جماعياً في السويداء. حين تصبح الدولة مقصلة، والوطن مقبرة، يصبح البحث عن خلاص تحت أي سقف آخر فعلاً طبيعياً. التعاون مع الشيطان ليس خيانة إذا كان الثمن هو البقاء. إنّ الخيانة الحقيقية هي أن تذبح شعبك وتطالبه بالولاء.
الذين يزايدون اليوم على الدروز، متهمين إياهم بالعمالة أو الخيانة، يتناسون أنّ كل السوريين فعلوا الأمر نفسه، لكن بطرق أخرى. الأكراد وضعوا أيديهم في يد واشنطن وروسيا. فصائل الشمال إحتموا بتركيا. النظام القديم لم يتردّد في الإرتماء في أحضان إيران، مستبدلاً السيادة بالوصاية. فلماذا تصبح السويداء وحدها مدانة لأنّها رفعت علماً يثير الحساسية أكثر من غيره؟
منذ خمسين عاماً وحتى اليوم، فرضت دمشق على سوريا صيغة الحكم المركزي الصلب. قدّم النظام هذه المركزية باعتبارها صمام الوحدة الوطنية وضمان الإستقرار. لكن الحقيقة أنّ هذه القبضة الحديدية كانت وقود التشظي. كلما شدّت العاصمة حبالها، كلما ازداد نزوع الجماعات إلى الإنفصال أو الإحتماء بغيرها.
اليوم، السويداء ليست سوى مثال فجّ على ما ينتج عن هذا النظام الأحادي. جماعة صغيرة، محاصرة، تُذبح وتُهمل في آن، فلا يبقى أمامها سوى كسر المحرّمات والبحث عن خلاص خارج الوطن. المركزية التي أرادها النظام غطاءً للسيطرة تحولت إلى آلة طرد، تُخرج كل من لا يخضع، وتدفعه دفعاً نحو الخارج.
المفارقة أنّ الذين يرمون الدروز بالخيانة يعرفون في قرارة أنفسهم أنّهم لو وُضعوا في موقعهم لاختاروا الخيار نفسه. بين أن تُدفن حيّاً بإسم الوطن، أو أن ترفع علماً غريباً لتبقى حيّاً، تصبح «الخيانة» هي شكل آخر من أشكال الشجاعة. السويداء قالت بصوت مرتفع ما يهمس به آخرون في الخفاء: نحن لا نريد أن نموت.
الدروز اليوم يقدّمون درساً قد ينسحب على غيرهم: عندما يُحوَّل الوطن إلى سجن، والمجتمع إلى رهينة، والموت إلى سياسة رسمية، فإنّ الإنفجار آتٍ لا محالة. ورفع الأعلام الغريبة ليس سوى بداية مسار طويل نحو تفكّك الدولة التي قتلت أبناءها بيدها.
ليس عيباً أن يختار الناس النجاة على حساب الشعارات. العيب أن يُقتلوا بإسمها. السويداء لم تخُن سوريا. سوريا الرسمية هي من خانت السويداء. الدماء التي سالت هناك ليست دليلاً على خيانة جماعة، بل على سقوط وطن تحوّل إلى آلة إبادة.