درب الجبل اللبناني.. 470 كيلومتراً من الحياة والذاكرة بين القرى والجبال

درب الجبل اللبناني.. 470 كيلومتراً من الحياة والذاكرة بين القرى والجبال

  • ١١ أيلول ٢٠٢٥
  • تيريزا كرم

هل تخيّلت يوماً أن تلفّ لبنان كله سيراً على الأقدام خلال 28 يوماً فقط؟ بين القرى والبلدات، بين الجبال والوديان، يعيش آلاف االمشاة تجربة لا تُنسى على درب الجبل اللبناني، حيث الطبيعة والتراث والناس يجتمعون في حكاية لبنانية واحدة.

على طول 470 كيلومتراً يمتد درب الجبل اللبناني، أول مسار مخطط بشكل إحترافي للمشي الطويل في لبنان، من عندقت شمالاً حتى مرجعيون جنوباً. درب يمرّ عبر أكثر من 76 قرية وبلدة، على إرتفاعات تتراوح بين 600 و2000 متر فوق سطح البحر، ليكشف للزائر جمال الطبيعة اللبنانية وتنوّع تراثها الثقافي والمعماري. لكن الأجمل أنّه لم يعد مجرد مسار للمشي، بل تحوّل إلى شريان حياة إقتصادي يدعم القرى ويفتح أمامها فرص رزق جديدة، من بيوت الضيافة إلى المطاعم الصغيرة، وصولاً إلى المرشدين المحليين.

أكثر من 25 ألف شخص سنوياً يختارون خوض هذه التجربة، فيما ينعم نحو 60 ألف زائر بمسارات على أجزاء منه، ليكتشفوا لبنان الحقيقي، بعيداً عن صخب المدن وضجيج السياسة. هو ليس مجرد درب… بل رحلة نحو البساطة، والضيافة، والذاكرة المشتركة.

عمر صقر: «الدرب يعيد الناس إلى دروب أجدادهم»

كشف المدير التنفيذي لجمعية درب الجبل اللبناني، عمر صقر، في حديث خاص لـ«بيروت تايم» أنّ الدرب يمتد على طول 450 كيلومتراً، وهو مقسّم إلى 27 قسماً، يحتاج كلّ منها إلى ما بين أربع وسبع ساعات سيراً على الأقدام، وفق مسافة المسار. ويعبر الدرب نحو 80 قرية لبنانية، ما يفتح المجال للتعرّف على تنوّع المناطق وأهلها.

قال صقر: «اليوم معظم القرى باتت تنظر إلى الدرب بإيجابية، بعدما لمس الأهالي أنّه يخلق فرص عمل ويضخّ أموالاً في الإقتصاد المحلي، سواء من خلال بيوت الضيافة أو شركات السياحة الصغيرة أو المطاعم والدكاكين»

وأضاف: «في شهر تشرين الأول نسير نصف الدرب خلال 15 يوماً، أما في نيسان فنمشي الدرب كاملاً خلال 28 يوماً. والمفاجأة أنّ هناك ما يقارب 60 ألف رحلة مشي سنوياً على هذا الدرب، غالبيتها فردية».

وعن أهمية التجربة، أوضح: «هذا الدرب يعيد الناس إلى دروب أجدادهم، ويصل القرى بعضها ببعض، ويمنح فرصة لاكتشاف التراث اللبناني المتنوّع بين منطقة وأخرى»، وإنه « السير على القدمين بعيد عن عالم الرتابة كل خطوة تختلف عن الأخرى وتتماهى مع إيقاع الطبيعة المتغير»

كما لفت صقر:«نحن نبيت في بيوت الضيافة والأديرة ونتناول طعام أهل القرى، متجنّبين الفنادق، لأنّ الهدف من الدرب أن يحاكي بساطة الحياة الريفية، وهي القيمة التي تميّزه وتعطيه نكهته الخاصة».

نادين وابر: «درب الجبل اللبناني غيّرني وغيّر نظرة الناس إليه»

أكدت نادين وابر في حديث خاص أنّ تجربتها مع درب الجبل اللبناني بدأت منذ عام 2009، حين انضمت إلى الهيئة الإدارية لجمعية درب الجبل اللبناني، وكانت تواظب على السير فيه كل عام، لكن من دون أن تكمل الدرب بأكمله.

وقالت: «في عام 2022 اتخذت قراراً بأن أمشي الدرب كاملاً، فكانت تجربة مختلفة كلياً. شهر كامل كان من أجمل ما قمت به في حياتي، شهر لم نفكّر فيه بشيء سوى أن نمشي، وكان هذا أكبر همّنا».

أما عن تفاعل المجتمع المحلى مع المشروع فقالت: «ما لاحظته أنّ المجتمع المحلي والقرى باتوا أكثر تقبّلاً للدرب. ففي البداية كانوا يعتقدون أنّ مرور الدرب في أراضيهم سيمنعهم من التصرّف بها أو الإستفادة منها. لكنهم إكتشفوا لاحقاً أنّ الدرب أصبح مصدر رزق لهم، من خلال بيوت الضيافة التي أُنشئت على طوله، والتي شكّلت مورداً إقتصادياً مهماً سواء عبر إستضافة المشاركين أو من خلال المرشدين المحليين الذين يرافقونهم».

وما يتعلق بالجدوى الإقتصادية أشارت وابر : «اليوم، هناك عدد كبير من الناس يعيشون من خلال هذا الدرب، سواء عبر الدكاكين الصغيرة، أو المحلات التجارية، أو حتى الفنادق المنتشرة في المناطق التي يعبرها. لقد تحوّل الدرب إلى شريان حياة للقرى، يجمع بين جمال الطبيعة وفرص التنمية».

 

بشير مارون: «كل يوم ننام في قرية جديدة ونكتشف لبنان آخر»

أكد بشير مارون الأستاذ الجامعي، أحد المشاة على درب الجبل اللبناني، أنّه بدأ رحلته من مرجعيون وصولاً إلى عندقت في عكار،  وقد أنجزها خلال 21 يوماً متواصلاً. قائلاً: « المسار ليس سهلاً لمن لم يعتَد المشي الطويل، لكنه ممكن، ومن لا يستطيع إنجازه دفعة واحدة، يمكنه تقسيمه على مراحل».

وعن خبرته: « إنّه على مدى واحد وعشرين يوماً، تحولت علامات درب الجبل البيضاء والأرجوانية إلى رفاق درب حقيقيين، يرشدون خطانا ويؤنسون وحدتنا في رحلة إستكشافية للوجه الجميل لبلدنا، وهذه العلامات كانت جزءاً لا يتجزأ من يومياتنا، ومع كل علامة نجدها كنا نشعر بالطمأنينة أنّنا على الطريق الصحيح، وهذه الإشارات الملونة تحمل رمزية خاصة بالنسبة لي، فهي توقظ بي حنيناً للأيام التي أمضيناها في الطبيعة»

وعن أهمية الدرب الوطنية يقول «إنّ السير من شمال لبنان الى جنوبه، ليس مجرد مغامرة رياضية، بل هو تجربة إنسانية عميقة تترك في النفس أثراً، إنّه شريان يربط بين أواصر هذا البلد المشتت، إنّه شعور بالإنتماء الى هذه الأرض، وشعور بالإمتنان الى كل يد ساهمت في بناء هذا المشروع الوطني الذي يجمع اللبنانيين على اختلاف إنتماءاتهم، عبر هذه التجربة أدركنا أنّنا لم نكن نعرف بلدنا قبلاً، لقد كنا كل يوم ننام في منطقة مختلفة، ونكتشف قرى لبنانية لا يعرفها الكثيرون. هناك تنوّع في الطبيعة والثقافات بين منطقة وأخرى، لكن ما يوحّد كل القرى هو الضيافة، الكرم، واللقمة الطيبة، ورحابة الناس، بعد يوم طويل من المشي، نجد دائماً مائدة جاهزة في انتظارنا». وبالنسبة للأماكن التي تنطبع في النفس «هناك مشاهد طبيعية لا تنتسى كالربيع على جبل حرمون، وجبل القموعة المهيب وغابات الأرز ووادي قاديشا وقرى جزين وغيرها الكثير» مضيفاً، «نحن نسافر لنتعرف على بلدان الآخرين وطبيعتهم فيما لدينا كنوز مغمورة صنعتها الطبيعة عبر ملايين السنين علينا كلبنانيين أن نكتشفها ونسعى للحفاظ عليها».

وعن فرص التواصل مع الآخرين خلال السير أضاف: «أحياناً نصادف أشخاصاً على الطريق يأخذوننا معهم للتعرّف على منطقتهم ونقضي وقتاً برفقتهم بتلقائية بعيداً عن كل الأفكار المسبقة بيننا كلبنانيين. ولكن للأسف لا نلتقي غالباً بلبنانيين يمشون خارج المناطق السياحية الطبيعية المعروفة، ما يستوجب من كل منا التوعية على أهمية ثقافة المشي للتعرّف الى لبنان من باب طبيعته وناسه، وما لفتني أنّنا التقينا بسيدة سويسرية كانت تسير وحدها على الدرب، كما صادفنا شاباً  آتٍ من الولايات المتحدة كان يحمل خيمته ويمشي بمفرده» 

إنّه ليس مجرد مسار مشي على إمتداد الجبال والوديان، بل رحلة في قلب لبنان، حيث تتقاطع الطبيعة بالذاكرة، والضيافة بالتراث. على درب الجبل اللبناني يكتشف المرء أنّ لبنان لا يُقاس بصخبه ولا بسياساته، بل بقدرة أهله على تحويل الجبال والقرى إلى جسر للحياة. 

يلفت مارون الى أنّ«درب الجبل هو طريق أمل يوحّد القلوب والمناطق، ويتجاوز الإنقسامات والتشرذم، إنّها تجربة غنية تستحق  أن تُعاش وتُروى وأن ندعو الآخرين لخوضها ليكتشفوا بدورهم جمال لبنان الحقيقي إن في طبيعته أو في الروح المشتركة بين أهلّه»

إنّ ال 470 كيلومتراً  تتعدى كونها من الجبال والوديان، إنّها 470 كيلومتراً من الحياة، من الحكايات، من القرى التي تنبض مجدداً،هي شاهدة على كل ما مرّت هذه الأرض من أحلام ومآسٍ وأفراح وما زالت موجودة تخبر عن نفسها، وشاهدة على لبنان الجميل الذي تراه عبر كل خطوة تخطوها سيراً على القدمين.