زمن القضايا الصغرى.. من «تحرير القدس» إلى إضاءة الروشة

زمن القضايا الصغرى.. من «تحرير القدس» إلى إضاءة الروشة

  • ٢٥ أيلول ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

القضية الكبرى إنكمشت إلى صورة مضيئة، والرمزية التي كانت بحجم الأمة صارت لا تتعدى بلدية بيروت وصخرة المدينة فيها.

قبل عقدين وأكثر، كان حزب الله يرفع شعارات القضايا الكبرىتحرير القدس، إزالة إسرائيل من الوجود، دخول الجليل «خلال ساعات»، وحرب كونية مع «الشيطان الأكبر». كانت الكلمات تتدحرج على ألسنة قادته كأنّها أحجار مقدسة لا يطالها الشك، وكان الجمهور يصفق لكأنّ وعد الآخرة قد بدأ من الضاحية الجنوبية لبيروت.

لكن الزمان تغيّر. في الحرب الأخيرة، التي مرّ أقل من عام على انتهائها، هُزم الحزب هزيمة مدوّية. لم يسقط بعض مقاتليه فحسب، بل فقد أبرز قادته: السياسيين منهم، العسكريين، وحتى رجال الدين الذين كانوا يضفون على خطابه صبغة شبه لاهوتية. والأهم أنّ الحزب وجد نفسه أمام مشهد جديد: قصف إسرائيلي شبه يومي، محدود نعم، لكنه منتظم ومذلّ، يمرّ بلا ردّ ولا حتى تهديد. فالمقاومة التي كانت تتوعد بفتح الجبهات، باتت تكتفي بعدّ الغارات ودفن قتلاها بصمت.

في هذا السياق المأزوم، جاءت «المفاجأة»: الحزب يريد إحياء الذكرى السنوية الأولى لغياب حسن نصرالله بإضاءة صخرة الروشة في بيروت بصورته. نعم، الصخرة. الصخرة التي تتوسّط البحر وتشهد على أنّ بيروت مدينة الحياة والإنفتاح، يريد الحزب تحويلها إلى نصب تذكاري حزبي لرجل لم يكن يوماً مسؤولاً رسمياً في الدولة، ولم يُنتخب حتى مختاراً لحيّ.

المفارقة تثير الضحك أكثر مما تستحق الغضب: من تحرير القدس إلى إنارة حجر. من وعد الجليل إلى صخرة الروشة. كأنّ الحزب نفسه يعترف، بلا أن يقصد، بانحدار مساره: القضية الكبرى إنكمشت إلى صورة مضيئة، والرمزية التي كانت بحجم الأمة صارت لا تتعدى بلدية بيروت وصخرة المدينة فيها.

ثم إنّ إختيار الروشة بالذات ليس بريئاً. هذه الصخرة رمز لبيروت، مدينة السنّة والأرثوذكس والموارنة والأرمن والشيعة والسريان المنهكين الذين دفعوا أثماناً باهظة من صدامات وصراعات لم يختاروها. تحويلها إلى لوحة حزبية هو إستفزاز لا يمكن تجميله بشعارات «التقدير والتكريم». فأي تكريم لرجل لم يتقلّد منصباً رسمياً في الدولة؟ هل تضاء الصخرة لكل زعيم حزبي راحل؟ هل ستصبح بيروت متحفاً للصور المضيئة بدل أن تبقى مدينة تعج بالحياة؟

في العمق، الأمر ليس مجرد جدل محلي. إنّه صورة مكثفة لانكماش المشروع كله: من طموح أن يكون الحزب لاعباً إقليمياً يهدّد إسرائيل ويقود محوراً عابراً للحدود، إلى حزب مأزوم يبحث عن فتات رمزي في الداخل، يتوسّل صورة على صخرة كي يقنع جمهوره أنّ شيئاً ما ما زال باقياً من مجد الأيام الماضية.

قد يضيئون الصخرة ليلة واحدة، وقد يملأون البحر أضواءً صفراء وخضراء، لكن ذلك لن يغيّر شيئاً من الحقيقة العارية: إنتهى زمن الوهم الكبير. لم يدخلوا الجليل، لم يحرروا القدس، لم يمنعوا الطائرات الإسرائيلية من قصف معاقلهم، ولم يحموا لبنان، وكل ما تبقى لهم هو صخرة في بيروت، حتى هذه الصخرة يرفض أهلها أن يُمس بها.

إنّه مشهد بالغ الرمزية: حزب كان يعدنا أن يفتح أبواب التاريخ، إنتهى به الأمر عالقاً أمام أبواب بلدية بيروت ومحافظها، يتوسّل إذناً لإضاءة حجر، ويفكر كيف يمكن أن يعيد المجد السليب في زمن الهزيمة.