من مريم يونس إلى أفيخاي أدرعي.. كيف تحاول إسرائيل إختراق الوعي اللبناني؟
من مريم يونس إلى أفيخاي أدرعي.. كيف تحاول إسرائيل إختراق الوعي اللبناني؟
ما يحدث ليس مصادفة… بل عملية مدروسة، تُنفّذ بالإعلام وبـ«الهاشتاغ» بدل المدفع، لتُمهّد تدريجياً لفكرة تطبيع يتسلّل من الشاشة إلى العقول.
في الأسابيع الأخيرة، بدا وكأنّ الحدود بين بيروت وتل أبيب لم تعد تُرسم بالأسلاك الشائكة فقط، بل بخطوط بثّ تلفزيونية وشبكات تواصل اجتماعي.
لبنانية تعيش في إسرائيل، إسرائيلي يتجوّل في شوارع بيروت، نائب لبناني يظهر على قناة إسرائيلية. مشاهد كانت تبدو خيالية قبل سنوات، لكنها اليوم تتكرّر بوتيرة لافتة، وكأنّ هناك من يكتب فصول «تطبيع ناعم» على مهل، يُنفّذ بالكلمة والصورة بدلاً من السلاح.
القنوات الإسرائيلية تكثّف إستضافة لبنانيين على شاشاتها، من ضباط جيش لحد السابقين الذين لجأوا إلى إسرائيل بعد إنسحاب عام 2000، إلى مغتربين يقدّمون أنفسهم كأصوات «حرّة» معارضة لحزب الله أو حتى للدولة اللبنانية نفسها.
بين الأسماء البارزة: كلود إبراهيم، المدير السابق لمكتب أنطوان لحد، ومريم يونس، التي تصدّر مقاطعها بعبارة: «أنا لبنانية عايشة بإسرائيل»، في خطاب يبدو شخصياً لكنه مصمَّم بدقة ليخترق الحاجز النفسي الذي يمنع القبول بإسرائيل في الوعي العام اللبناني.
وفي المشهد نفسه، يطلّ سعيد غطاس، ضابط سابق في جيش لحد، بصفته «خبيرًا لبنانيًا» على القنوات العبرية. غطاس يزعم أنّ لبنانيين في الداخل يتواصلون معه ويقولون له: «خلّي إسرائيل تخلّصنا من هالوضع». وفي الوقت نفسه، يعلن عن مبادرة «السلام مع إسرائيل» ، في محاولة لإعطاء بعد سياسي منظم لما يُسوّق على أنّه «تيار لبناني معتدل». لكن خلف هذا المشهد الإعلامي، تكمن استراتيجية أعمق بكثير. إنّ إسرائيل لا تُخاطب اللبنانيين كخصوم، بل تحاول إعادة تشكيل صورتها داخل وعيهم. والهدف ليس إقناع الحكومات أو القيادات، بل تفكيك الموقف الشعبي من الداخل، وبناء حالة رمادية بين العداء والقبول.
المتحدث بإسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، يمثّل هذا الإتجاه بوضوح، يخاطب اللبنانيين بلهجتهم، يقتبس من الشعر والتراث الديني، ويستخدم أسلوباً قريباً من لغة الشارع ووسائل التواصل. خطابه ليس عفوياً؛ بل هو جزء من حرب نفسية ناعمة، تهدف إلى نقل الصراع من الميدان العسكري إلى الوعي الشعبي. ففي الحرب الحديثة، لا يكفي أن تنتصر بالسلاح، بل يجب أن تُقنع خصمك بأنّه مهزوم أو أنّه لا جدوى من مقاومته.
أما الفيديو الذي ظهر فيه الشاب الإسرائيلي آفي غولد يتجوّل في شوارع بيروت متحدثاً بالعبرية، فقد كان القنبلة الرمزية في هذه السلسلة. مشهد مصوَّر بدقّة، ومُعدّ ليُحدث صدمة.فهو لا يحمل فقط رسالة «جرأة»، بل يقول ضمناً، الإختراق ممكن، والعزلة لم تعد فعالة. بهذه اللقطات، تُحوّل إسرائيل الكاميرا إلى أداة حرب معنوية، تشكّك بقدرة لبنان على حماية نفسه، وتبثّ الإحباط بدل الرصاص.
ووسط هذه الموجة، أثار ظهور النائب مروان حمادة على قناة i24news الإسرائيلية جدلاً واسعاً. قبل أن يوضح أنّ المقابلة كانت مع قناة فرنسية، ولم يكن يعرف أنّها ستبث على قناة إسرائيلية أيضاً. إلا أنّ الحادثة كشفت هشاشة الحدود الإعلامية، وصعوبة السيطرة على تدفق المحتوى في زمن المنصّات العابرة للرقابة.
ما يجري اليوم ليس مجرد نشاط إعلامي، بل جزء من هندسة وعي تمارسها إسرائيل تجاه لبنان، تعتمد على ثلاثة محاور:
- تطبيع الخطاب، وتقديم إسرائيل كطرف يمكن التحدّث معه، لا كعدو مطلق.
- تفكيك صورة العداء الجماعي، وإظهار لبنانيين «منفتحين» أو «معارضين» للرواية الوطنية.
- إحتلال المساحات الرقمية، من خلال رسائل موجهة باللهجة المحلية، تنتشر على شكل محتوى خفيف وساخر، لكنها تحمل في طيّاتها رسائل سياسية عميقة.
هذه ليست صدفة، بل إمتداد لمدرسة في إدارة الصراع عبر الإعلام. ففي استراتيجيات الحروب الحديثة، الإعلام هو «الميدان الخامس» بعد البرّ والبحر والجو والفضاء السيبراني. وإسرائيل تدرك أنّ السيطرة على السردية أخطر من السيطرة على الأرض، وهذا ما فعلته الحركة الصهيونية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. من الشبكات الإعلامية الكبرى الى السينما والتلفزيون، والإنترنت والذكاء الإصطناعي بهدف صناعة الموافقة. إذ إنّ الرواية التي تصل إلى الجمهور أولًا هي التي تُصبح حقيقة.
من هنا يمكن قراءة هذه الظاهرة كجزء من حرب إدراك تتجاوز الحدود الجغرافية. إنّها ليست دعوة سلام، بل محاولة لإعادة تعريف العدو في وعي اللبنانيين والعرب، وتقديم الإحتلال بوجه «إنساني» ناعم يخفي حقيقة القوة والهيمنة.
أما النتيجة؟ فتطبيع تدريجي عبر الصورة، وتراكم بطيء في اللغة والمصطلحات والمشاعر. إنّها معركة طويلة الأمد، هدفها ترويض الوعي لا كسب المعركة العسكرية.

