أين «تكشيرة» نياب الدولة؟
أين «تكشيرة» نياب الدولة؟
السيادة لا تُستعاد بالتصريحات، بل بالقوة التي تحمي تلك التصريحات. والدولة التي لا تُظهر أنيابها... يفترسها الجميع.
من يُراقب خطاب الدولة اللبنانية حول «حصر السلاح» يظن أنّ البلاد على أبواب لحظة حاسمة، وأنّ القرار السياسي اتُخذ وأنّ التنفيذ مسألة وقت. لكن ما إن نضع هذا الخطاب تحت ضوء الواقع، حتى نرى هشاشة الوعد، وغياب الإرادة، وانكشاف الدولة كما هي. سلطة تُعلن كثيراً… وتفعل قليلاً، بل تكاد لا تفعل شيئاً.
فمنذ أشهر طويلة، والدولة تُردد لازمة واحدة تقول بأنّ السلاح يجب أن يكون بيدها وحدها. تُكررها في البيانات الوزارية، في المحافل الدولية، في التصريحات وفي خطب المناسبات الوطنية. لكن السلاح، في المقابل، لا يزال خارجها، لدى «حزب والله»، في المخيمات الفلسطينية، وفي مربعات أمنية، وفي جيوب منفلتة من أراضي الجمهورية. لم تُجَرد فئة واحدة من سلاحها، ولم تُبسط سيادة واحدة من سياداتها. وكأنّ الدولة تتعامل مع الأمن كشعار كلامي، لا كقرار وجودي.
في الجنوب، تُروى حكاية يعرفها أبناء المنطقة جيداً. تقول إنّ رجلاً يدعى «عزيز» دخل يوماً على أحد زعماء آل الأسعد يشكو أنّ إخوته سرقوا ميراثه. فسأله الزعيم: «من هم إخوتك؟» أجاب: «ذيب، وسبع، ونمر». فابتسم الأسعد وقال له: «إخوتك ذيب وسبع ونمر… وأنت إسمك عزيز!؟ روح يا ابني غيّر إسمك وخليه يصير فهد، وساعتها روح لعند إخواتك وبيعطوك حقك. يا ابني… كَشِّر عن نيابك، كل الناس بتهابك، وخصوصي إخواتك».
هذه الرواية ليست طرفة شعبية مذكورة في كتاب الأديب سلام الراسي فقط، بل هي اختصار لواقع الدولة اللبنانية كما يراه الناس. إسمها «دولة»، لكن سلوكها سلوك «عزيز». تُخاطب من يحملون السلاح بلغة النعومة، وتطلب منهم التفضّل بإعادته. تطلب من «النمر والذيب والسبع» أن يسلّموا السلاح… بينما هي لا تزال ترتدي إسمها الليّن، ووجهها الخجول، ونيابها المستترة.
أخطر ما في مقاربة الدولة اللبنانية أنّها تُصر على اعتبار إعلان النية بديلاً عن القوة، والبيان السياسي بديلاً عن الفعل السيادي، والشعار الوطني بديلاً عن القرار الأمني. كأنّ مجرد القول «السلاح يجب أن يكون بيد الدولة» يكفي لكي تعود الدولة ملكة الساحة. لكن الواقع يقول العكس، لا شيء تغيّر. السلاح باق حيث كان، والسلطة تتراجع كل يوم خطوة إضافية عن أمنها وحدودها وقرارها.
النية لا تساوي القدرة. والتمني لا يُنتج سيادة. لذلك يصبح قول المفكّر برتراند راسل مدخلاً لفهم هشاشة سردية «حزب الله» تحديداً: «أفضل دليل على فشل الفكرة هو حاجتها إلى سلاح يحميها». فكرة الممانعة، إن كانت محقة ومطلقة في ذاتها، فلماذا تحتاج إلى هذا الكم من السلاح، وإلى هذا الحجم من السيطرة الأمنية والسياسية؟ لماذا تحتاج إلى قمع، وتخوين، ومربعات؟ لأنّ الفكرة لم تعد فكرة، بل سلطة. والسلطة حين تُبنى على السلاح وحده، تتحول إلى مشروع هيمنة، لا مشروع وطن.
والدولة، التي يُفترض أن تكون الحكم والمرجع والسقف الأخير، لم تجرؤ يوماً على طرح سؤال راسل هذا على «حزب الله». لا لأنّ السؤال ممنوع، بل لأنّ الدولة نفسها لا تملك الكثير من الإرادة كي تواجهه. كيف يمكنك أن تُنكر شرعية سلاح الآخرين… فيما أنت لا تمتلك سوى شرعية من ورق؟
«حزب الله» يقول إنّ سلاحه يحمي لبنان. المخيمات الفلسطينية تقول إنّ سلاحها يحمي الفلسطينيين. الجماعات الأخرى تقول إنّ سلاحها يحمي بيئتها. حتى الدولة تكتفي بالقول بإنّ سلاحها يحمي الجميع، لكنها تبدو وكأنّها اقتنعت، من حيث لا تدري، بأنّ «دورها» هو إدارة الفراغ الناتج عن تغييرات الحرب الأخيرة، لا ملؤه.
هكذا، يبقى البلد فسيفساء من القوى المسلحة، كل منها يصنع شرعيته الخاصة، ويكتب قواعده الخاصة، ويرسم حدوده الخاصة. فيما الدولة تتفرج، أو تسترضي، أو تفاوض، أو تسوّف. لكنها لا تكشِّر. لا تُظهر أنيابها. لا تطبق ما تُعلنه، إنّها السلطة الوحيدة المخوّلة بامتلاك السلاح والعنف المشروع.
لقد آن للدولة اللبنانية أن تفهم الدرس البسيط الذي فهمه زعيم آل الأسعد قبل عقود: لا أحد يعطيك حقّ ما لم تكن قادراً على أخذه. لا السلاح سيُسلَّم طوعاً، ولا النفوذ سيتراجع وحده، ولا منطق القوة سيزول بمجرد أن تقول الدولة «أريد».
السيادة لا تُستعاد بالتصريحات، بل بالقوة التي تحمي تلك التصريحات. والدولة التي لا تُظهر أنيابها... يفترسها الجميع.
فأين تكشيرة الدولة؟ أين الخط الأحمر الذي لا يتجاوزه أحد؟ أين القرار الذي يُشعر «الذيب والسبع والنمر» بأنّ للدولة فهداً يحميها؟
إنّ الدول تُقاس بقدرتها على فرض النظام، لا بحجم بياناتها. وتُحترم بصلابة قرارها، لا بعاطفة خطابها. اليوم، المطلوب ليس إعلان نيات جديدة، ولا تكرار لازمة «حصر السلاح». المطلوب أن تُدرك الدولة أن كل يوم تتأخر فيه عن «تكشير نيابها»، يتعمَّق وجود سلاح غيرها.

