زيارة البابا بين رسالة الشراكة والسلام… وكيدية الطبقة الحاكمة

زيارة البابا بين رسالة الشراكة والسلام… وكيدية الطبقة الحاكمة

  • ٠٣ كانون الأول ٢٠٢٥
  • نانسي اللقيس

خلف هذا المشهد الروحي، تحوّل الإستقبال الرسمي إلى ساحة لتصفية الحسابات الداخلية، مُحوّلاً فرصة الشراكة إلى منصة للحقد السياسي المستشري.

لم يكن وصول البابا لاوون الرابع عشر إلى بيروت حدثاً دينياً عابراً، بل شكل لحظة مفصلية وكاشفة وضعت الكيان اللبناني الهش تحت مجهر الرمزية الكاثوليكية العليا. جاء الحبر الأعظم برسالة سلام ووحدة، مؤكداً خصوصية لبنان كـ«مكان للتعدد والعيش المشترك»، ومُلامساً جراح أمة أنهكتها الانهيارات والصراعات الفئوية. في الشوارع والكنائس، كان المشهد صادقاً وعفوياً، يعكس عطش الشعب إلى صوت يخرج من خارج دائرة المصالح اليومية الضيقة، في تناقض صارخ مع الصورة التي قدمتها الطبقة السياسية.
خلف هذا المشهد الروحاني، تحول الاستقبال إلى ساحة لتصفية الحسابات الداخلية، مُحوّلاً فرصة الوحدة إلى برهان على الحقد السياسي المستشري. الملاحظة الأبرز التي كشفت عمق هذا الانقسام كانت إقصاء رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع من مراسم الاستقبال الرسمية المتقدمة. خطوة لم تكن مجرد خلل بروتوكولي، بل كانت قراراً مقصوداً ومحسوباً، هدفه الواضح إعادة ترتيب المشهد المسيحي الرسمي بعيداً عن إرادة أكبر لاعب حزبي في البلاد.
لم تفلح التبريرات الرسمية التي استندت إلى «بروتوكول الدعوات» في إقناع المراقبين، لأنّ اللبنانيين يدركون أنّ قواعد المراسم في دولتهم تُفصّل حسب المصلحة. هذا التهميش لم يكن صدفة، بل جاء تعبيراً عن كيدية سياسية ورغبة لدى الجهات المنظمة بتهميش دور المعارضة في لحظة تحمل أقصى درجات الرمزية. وقد تعززت هذه القراءة الإنتقائية للبروتوكول مع ملاحظة حضور شخصيات لا تحمل صفة دستورية رسمية، كأولاد وأصهار رئيس مجلس النواب نبيه بري، ضمن الواجهة الرسمية. هذا التناقض كشف أنّ الترتيبات لم تكن لخدمة البروتوكول بقدر ما كانت لخدمة النفوذ وتكريس سيطرة المنظومة على المشهد العام.
هذا الإقصاء لم يكن نابعاً من كيدية فردية فحسب، بل جاء ضمن استراتيجية أوسع تبنتها بعبدا لَلَجْمِ محاولات عزلها السياسي، مستفيدة من وهج الزيارة لترسيم حدود نفوذها. فإذا كان الهدف الظاهر هو فرض بروتوكول صارم، فالهدف الباطن كان تأكيد شرعية المحور الحاكم، وهو ما انعكس أيضاً في نجاح حليفها، حزب الله، بفرض حضوره كجزء أصيل من النسيج اللبناني، مُفشلاً مساعي وصفه بأنّه خارج هذا النسيج. لقد اعتُبر هذا الإستبعاد إهانة لا تطال شخص جعجع فحسب، بل شريحة واسعة من المسيحيين الذين يرون فيه ممثلاً أساسياً لهم، ليصبح الحدث دليلاً إضافياً على أن الطبقة الحاكمة لا تزال تتعامل بعقلية «من معي ومن ضدي» حتى في حضرة رأس الكنيسة الكاثوليكية.
هنا تكمن المفارقة المرة؛ البابا جاء ليقول إنّ السلام خيار ومسار، لكن السلطة أثبتت أنّ كل مناسبة هي فرصة لإظهار التفوق والإنتقام. كانت رسالة الفاتيكان تدعو إلى المصالحة، بينما كانت الترتيبات المحلية تدعو إلى الإصطفاف. زيارة البابا كشفت حقيقتين متوازيتين؛ أنّ اللبنانيين عطشى للسلام ولسياسة نظيفة، وأنّ الطبقة الحاكمة لا تزال رهينة حسابات صغيرة وكيدية، لا تتردّد في استخدام أي رمز وطني أو ديني لتسجيل نقاط. السؤال الآن: هل تتعلم القوى السياسية من هذه اللحظة، أم تتحوّل الزيارة إلى حدث آخر يُستهلك وينتهي، فيما يبقى الواقع كما هو منقسم، وهش، وملوّث بالكيدية؟