تأثير الفيديوهات القصيرة على الدماغ: «تعفّن الدماغ» وتحذيرات إيلون ماسك

تأثير الفيديوهات القصيرة على الدماغ: «تعفّن الدماغ» وتحذيرات إيلون ماسك

  • ١٤ كانون الأول ٢٠٢٥
  • تيريزا كرم

تصريحات إيلون ماسك حول تأثير الفيديوهات القصيرة ليست مجرد رأي شخصي، بل تعكس واقعاً علمياً مدعوماً بالدراسات الحديثة. «تعفّن الدماغ» اليوم أصبح مصطلحاً يصف تراجع الوظائف المعرفية نتيجة الإفراط في استهلاك المحتوى الرقمي السريع.

 

في بودكاست حديث أثار ضجة واسعة، وصف إيلون ماسك، مؤسس شركات تسلا وسبيس إكس، الفيديوهات القصيرة بأنها «أسوأ اختراع أضر بالبشرية» وأنها «عفّنت العقول» وأفسدت طريقة تفكير الناس. هذه التصريحات جاءت من شخصية تقنية في قلب صناعة الإنترنت، ليست مراقباً من بعيد، بل من أحد المهندسين الذين ساهموا في صياغة المنصات الرقمية الحديثة. ما يثير الاهتمام في تصريح ماسك هو الربط بين نمط استهلاك المحتوى الرقمي القصير وتدهور الوظائف المعرفية للدماغ، وهو ما أصبح يعرف في الأدبيات الحديثة بمصطلح «تعفّن الدماغ» (Brain Rot).

مصطلح «تعفّن الدماغ» ليس جديداً، فقد ظهر لأول مرة عام 1854 عندما استخدمه الفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو في كتابه Walden لوصف «تبلّد الإدراك الإنساني» نتيجة الإفراط في تبسيط المعرفة والمعلومات. في العصر الرقمي، عاد المصطلح ليصبح أكثر انتشاراً، وأصبح يُستخدم لوصف التأثيرات السلبية للوسائط الرقمية القصيرة على الوظائف المعرفية، مثل ضعف التركيز، قِصر الانتباه، التدهور في الذاكرة قصيرة المدى، والإرهاق الذهني والعاطفي. وقد اختارت دار أكسفورد للمراجع الجامعية المصطلح كلمة عام 2024، ما يعكس مدى شعبيته وانتشاره في النقاش العام والعلمي.

ماهية «تعفّن الدماغ» وتأثير الفيديوهات القصيرة

«تعفّن الدماغ» يشير إلى حالة من التراجع المعرفي والإرهاق الذهني الناتجين عن التعرض المكثف لمحتوى قصير، متلاحق، قائم على الإثارة اللحظية. هذا النوع من المحتوى يشمل مقاطع الفيديو القصيرة مثل Instagram Reels وTikTok وYouTube Shorts، والتي تتراوح مدتها غالباً بين 7 و15 ثانية، وتُقدَّم بشكل مستمر عبر الخوارزميات التي تصمّم لتوفير تجربة مخصصة لكل مستخدم، كما تم توضيحه في فيلم The Social Dilemma.

الأسباب العصبية لتأثير المحتوى القصير تتعلق بشكل أساسي بالدوبامين، الناقل العصبي المسؤول عن المكافأة والتحفيز والسعادة. عند مشاهدة مقاطع الفيديو القصيرة، يفرز الدماغ دفعات سريعة من الدوبامين، ما يمنح شعوراً بالرضا اللحظي ويعزز السلوك المستمر للتفاعل مع هذه المقاطع. لكن الإفراط في التعرض لهذه المنبّهات اللحظية يؤدي إلى تبلّد الاستجابة العصبية وفقدان الدماغ قدرته على الشعور بالمكافأة من الأنشطة البطيئة أو المعقدة، وهو ما يمثل الأساس لتطوير السلوك الإدماني.

علاوة على ذلك، أثبتت الدراسات الحديثة أن التعرض الطويل والمكثف للفيديوهات القصيرة يرتبط بتراجع القدرات التنفيذية، بما في ذلك التخطيط، التفكير النقدي، القدرة على الصبر، وإدارة الانفعالات. ويُشير الباحثون إلى أن هذه التأثيرات قد تتعدى الوظائف المعرفية إلى الجوانب البدنية والعاطفية، مثل ضعف النوم، اضطرابات المزاج، وحتى تراجع القدرة الجنسية.

الأدلة العلمية: الدراسات الحديثة


في أيلول  2025، نشرت مراجعة شاملة في Psychological Bulletin تضمنت 71 دراسة شملت حوالي 100,000 مشارك. أظهرت النتائج أن الاستخدام المكثف للفيديوهات القصيرة مرتبط بانخفاض الأداء الإدراكي، خصوصاً في الانتباه وضبط الاندفاع. كما وجدت هذه الدراسة علاقة بين التعرض المكثف للفيديوهات القصيرة وارتفاع مستويات القلق، الاكتئاب، الإجهاد والشعور بالوحدة.

دراسة أخرى نشرت في أكتوبر 2025 استعرضت 14 دراسة عن استخدام الفيديوهات القصيرة، وأكدت النتائج السابقة: هناك ارتباط بين الاستخدام المكثف للفيديوهات القصيرة وقصر مدة الانتباه، تراجع الأداء الأكاديمي، وصعوبة التركيز على المهام طويلة المدى.

لم تقتصر الدراسات على الولايات المتحدة. فقد أظهرت أبحاث في المملكة المتحدة، الأردن، السعودية ومصر نتائج مماثلة، مؤكدة وجود ارتباط بين استهلاك الفيديوهات القصيرة ومشاكل في الانتباه، اضطرابات الذاكرة، والإرهاق المعرفي. ومع ذلك، أشارت هذه الدراسات إلى أنها لم تثبت علاقة سببية مباشرة، وغالباً ما كانت تحليلات مقطعية، أي دراسة لحظة زمنية واحدة دون متابعة طويلة الأمد.

الآثار العصبية والبنية الدماغية

التعرض المفرط للفيديوهات القصيرة لا يؤثر فقط على المواد الكيميائية في الدماغ، بل يمتد ليشمل البنية العصبية نفسها. أظهرت الأبحاث أن الإفراط في وقت الشاشة يمكن أن يقلل من المادة الرمادية والمادة البيضاء في الدماغ. فالمادة البيضاء مهمة للتعلم والتواصل والإدراك، بينما ترتبط المادة الرمادية بالتفكير والحركة الإرادية. انخفاض هاتين المادتين يؤدي إلى ضعف القدرات المعرفية على المدى الطويل.

في سياق مشابه، تشير الدراسات إلى أن التغيرات في الدماغ الناتجة عن الإفراط في المحتوى الرقمي تشبه بعض جوانب الخرف المبكر، خصوصاً في الوظائف التنفيذية والذاكرة قصيرة المدى. هذه النتائج تثير القلق حول احتمال تضخم معدلات الخرف مستقبلاً، خصوصاً لدى الأجيال التي بدأت التعرض للشاشات منذ سن مبكرة.

الربط بين المحتوى القصير والصحة العامة


إلى جانب التأثيرات المعرفية، قد يؤدي الإفراط في الفيديوهات القصيرة إلى مشاكل صحية أوسع، تشمل:

اضطرابات النوم: التعرض المستمر للضوء الأزرق قبل النوم يعطل الساعة البيولوجية.

العزلة الاجتماعية: الاستخدام المفرط للشاشات يقلل من التفاعل الواقعي مع الآخرين.

الخمول البدني: الجلوس الطويل أمام الشاشات يزيد من مخاطر السمنة وأمراض القلب.

الصحة الجنسية: تشير بعض الدراسات إلى وجود ارتباط بين الإفراط الرقمي والتراجع في القدرة الجنسية نتيجة التوتر العصبي وقلة النشاط البدني.

الإرهاق العاطفي والعقلي: الاستخدام المستمر يسبب شعوراً بالإجهاد المزمن، زيادة القلق والاكتئاب.

الفئات العمرية الأكثر عرضة


الأطفال والشباب هم الأكثر عرضة لتأثيرات المحتوى القصير. تشير الإحصاءات إلى أن الأطفال الذين يقضون أكثر من ساعتين إلى ثلاث ساعات يومياً أمام الشاشات يظهر لديهم ضعف في الذاكرة قصيرة المدى والانتباه. كما أن الأجيال الحديثة تتفاعل مع التكنولوجيا منذ الأشهر الأولى من حياتها، بينما بدأت الأجيال السابقة التعامل معها في سن أكبر، ما يزيد من الفرق في التأثيرات المعرفية بين الأجيال.

بالنسبة للبالغين، هناك دلائل على أن الإفراط في الفيديوهات القصيرة يقلل من القدرة على التركيز والتأمل، ويزيد من الاعتماد على المكافآت اللحظية، وهو ما قد يؤدي إلى سلوكيات إدمانية.

استراتيجيات مواجهة «تعفّن الدماغ»


إدارة التعرض للفيديوهات القصيرة تمثل تحدياً حقيقياً. نصائح مثل ترك الهاتف، استخدام تطبيقات حظر، أو إيقاف الإشعارات غالباً ما تكون غير فعالة على المدى الطويل. ومع ذلك، هناك استراتيجيات مقترحة:

. التوعية المبكرة: تقديم نصائح حول استخدام الشاشات للآباء أثناء الحمل والأطفال منذ الصغر.
. تطوير عادات رقمية صحية: تشجيع النشاط البدني والهوايات التي تقلل من الجلوس الطويل أمام الشاشات.
. النظافة الرقمية: مثل الامتناع عن استخدام الشاشات قبل النوم لتجنب اضطراب الساعة البيولوجية.
. تحويل الهاتف إلى «هاتف غبي»: استخدام تطبيقات تقلل الميزات الملهية، مع الحفاظ على الوظائف الأساسية فقط.
. تعاون السياسات العامة مع الشركات: تصميم بيئة رقمية صحية تشجع على تقليل وقت الشاشة دون فقدان التواصل الرقمي.
تصريحات إيلون ماسك حول تأثير الفيديوهات القصيرة ليست مجرد رأي شخصي، بل تعكس واقعاً علمياً مدعوماً بالدراسات الحديثة. «تعفّن الدماغ» اليوم أصبح مصطلحاً يصف تراجع الوظائف المعرفية نتيجة الإفراط في استهلاك المحتوى الرقمي السريع. الأدلة العلمية تشير إلى ضعف التركيز، تدهور الذاكرة قصيرة المدى، اضطرابات النوم، القلق والاكتئاب، وربما تأثيرات على الصحة الجنسية والأداء الاجتماعي.

بينما لا تزال العلاقة السببية بين الفيديوهات القصيرة والخرف المبكر غير مثبتة بالكامل، إلا أن الاستخدام المكثف يهيئ البيئة العصبية والسلوكية التي قد تزيد من مخاطر تدهور القدرات العقلية على المدى الطويل. لذلك، يصبح من الضروري تبني استراتيجيات واعية لإدارة وقت الشاشة، وتطوير عادات رقمية صحية، والوعي الكامل بتأثير المحتوى الرقمي على الدماغ، حفاظاً على الصحة العقلية والجسدية للأجيال الحالية والمقبلة.

المراجع

1. Larissa McGinn, Brain-rot and you: is short form content affecting your health?, Science Communication, 11-12-2025.

2. Psychological Bulletin, Review of 71 studies on short-form video consumption and cognition, September 2025.

3. Head, K.R., Effects of short-form video on attention and academic performance, October 2025.

4. The Social Dilemma, Netflix Documentary, 2020.

5. Thoreau, H.D., Walden, 1854.

6. Oxford University Press, Word of the Year 2024: Brain Rot.

7. Gupta, N., Pediatric Endocrinology and Screen Time Effects Research, 2025.

8. Jackson, J., Vanderbilt University Medical Center, Neuropsychology Studies, 2025.