ذئاب العصر الرقمي.. الإرهاب الفردي المؤدلج تهديد شخصي ومباشر

ذئاب العصر الرقمي.. الإرهاب الفردي المؤدلج تهديد شخصي ومباشر

  • ٢٧ كانون الأول ٢٠٢٥
  • تيريزا كرم

تتحول الأفكار إلى أسلحة، والشباب إلى ذئاب منفردة. بفضل المنصات المغلقة، لم يعد التهديد مجرد أرقام وإحصاءات، بل تجربة يومية، حيث يصبح كل هجوم رسالة، وكل فرد فاعلًا محتملًا.

 شهدت أوروبا ودول المنطقة موجة من الهجمات الفردية المعادية لتقاليد عيد الميلاد، من هجوم دهس سوق عيد الميلاد في بافاريا إلى الاعتداء بالسلاح الأبيض على كنيس في مانشستر، مرورًا بحوادث مشابهة في ميونيخ ومانهايم، وحتى فيديوهات تحريضية يظهر فيها الأطفال أحيانًا. هذه الهجمات تحمل رسائل أيديولوجية قوية، تهدف إلى بث الخوف وتأجيج القلق العام في المجتمع، مستندة إلى أيديولوجيات شخصية، سواء كانت دينية أو سياسية، مما يعكس ما يعرف بالإرهاب الفردي المؤدلج.

الإرهاب الفردي اليوم يشكل تحديًا أمنيًا معقدًا، إذ لم تعد الاستراتيجيات التقليدية كافية لمواجهته، بل يتطلب دمج الاستجابة الأمنية مع الوقاية الاجتماعية والنفسية، ورصد النشاط الرقمي المشبوه الذي يلعب دورًا أساسيًا في نشر الفكر المتطرف واستقطاب الشباب. التكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك الذكاء الإصطناعي والمنصات المغلقة مثل تيليغرام وديسكورد، تزيد من فعالية الدعاية وتحصر الاستقطاب في أطر زمنية قصيرة، أحيانًا من أسابيع فقط، بدل سنوات من التطرّف التقليدي.

 لمحة تاريخية: الفعل الفردي والتحولات الفكرية

يمكن تتبع جذور فكرة «الفعل الفردي» في أعمال الفلاسفة الأوروبيين في القرن الثامن عشر مثل جان جاك روسو، الذين شددوا على الحرية الفردية ومقاومة السلطة الاستبدادية. في القرن التاسع عشر، ظهر النيهيليزم الروسي والأناركية كإطار لتبرير العنف السياسي كوسيلة لتغيير نظم الحكم. ميشيل باكونين أبرز ممثل لهذه المدرسة، حيث ربط بين التجربة الثورية والفعل المباشر، مؤكدًا على أنّ الأعمال الفردية يمكن أن تكون أداة لتحقيق أهداف سياسية، بما في ذلك الاغتيالات والدعاية بالفعل (propaganda of the deed).

مع ذلك، الإرهاب المعاصر المؤدلج يختلف جوهريًا عن هذه التجارب، فهو غالبًا ما يُصنع في بيئات رقمية عالمية ويستهدف مجتمعات مدنية بعيدة عن بيئة المنفذ، معتمداً على أيديولوجيات رفض الآخر المختلف في الحياة اليومية واستغلال الفضاء الرقمي لتعظيم التأثير النفسي والاجتماعي. أصبح الفعل الفردي أداة عالمية، تحمل رسالة أيديولوجية  دينية معقدة بدل السعي إلى تغيير سياسي محلي محدد.

 الإرهاب الحديث: الفردية والرقمية

اليوم، يظهر الإرهاب الاسلاموي أكثر فردية ولامركزية، غالبًا مدفوعًا بأيديولوجيات شخصية. الهجمات المنفردة مثل دهس الأسواق أو الاعتداء بالسكاكين أصبحت الأكثر شيوعًا، خاصة في الأماكن ذات الصلة بتقاليد دينية، وهي هجمات صعبة التوقع والمواجهة بأساليب الأمن التقليدية. كما أنّ المنصات الرقمية المغلقة والذكاء الاصطناعي يسرّعان من انتشار الفكر المتطرف، ويقلصان فترة التطرّف إلى أسابيع من خلال محتوى دعائي مخصص للأفراد الأكثر عرضة. كما يساهم التضخيم الرمزي للعنف عبر الإعلام الرقمي في جعل كل حادثة رمزًا للتهديد يتجاوز أعداد الضحايا الفعلية، ويخلق تأثيرًا نفسيًا جماعيًا واسع النطاق.

 العنف المؤدلج يستهدف المراهقين

الإرهاب الفردي لا يقتصر على العنف الجسدي، بل يتحول إلى عنف مؤدلج يهدف إلى إيصال رسائل واضحة، سواء كانت دينية، سياسية أو أيديولوجية. فهجمات أسواق عيد الميلاد والاعتداءات على دور العبادة ليست مجرد أعمال قتل عشوائية، بل تصميم متعمد لبث الخوف والسيطرة على وعي المجتمع.

الشباب هم الفئة الأكثر عرضة، حيث يُظهر الإحصاء أن ثلث المعتقلين المرتبطين بتنظيم داعش في أوروبا كانوا من المراهقين، مع تزايد التورط تحت سن 14 عامًا منذ 2019. تساهم العوامل الاجتماعية والنفسية مثل العنف الأسري، الحرمان العاطفي، الفقر، الانعزال الاجتماعي، والشعور بالوحدة في جعل هؤلاء الشباب أهدافًا سهلة للاستقطاب الرقمي. الذكاء الاصطناعي والمنصات المغلقة تزيد من جذب المحتوى الدعائي، وتسهّل التخطيط للهجمات الفردية عبر تعليمات رقمية دقيقة.

 مظاهر الإرهاب المعاصر في أوروبا

تتراوح مظاهر الإرهاب في أوروبا بين الهجمات الفردية العنيفة، الهجمات الرمزية، والهجمات السيبرانية والهجينة. الإرهاب الإسلاموي يركز على أعمال فردية مثل هجمات ميونيخ ومانشستر ودهس أسواق عيد الميلاد، مستهدفًا المدنيين عبر المنصات الرقمية المغلقة. فيما التطرف اليميني يرتكز على أيديولوجيات تحريضية ضد الأقليات والمهاجرين، مع استغلال التكنولوجيا الحديثة مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد لصناعة الأسلحة، والتخطيط الرقمي للهجمات. أما التطرف اليساري فيظهر في جماعات بيئية وحركات انفصالية تركز على التخريب الرمزي للمنشآت الاقتصادية والسياسية دون استهداف مباشر للمدنيين.

الهجمات السيبرانية والهجينة تمثل تهديدًا جديدًا يشمل تخريب البنى الرقمية، سرقة المعلومات، ونشر الدعاية المضللة، مع استهداف البنى التحتية الحيوية مثل المطارات، الشبكات الكهربائية والسدود، كما ظهر في هجمات أنظمة vMUSE والهجوم الرقمي على سد Bremanger في النرويج.

 الإرهاب والهجمات الرقمية

الإرهاب اليوم لم يعد مقتصرًا على العنف الجسدي، بل يشمل الهجمات السيبرانية والهجينة، مستغلاً التكنولوجيا للسيطرة على بنى المجتمع الحيوية. الدراسات الأوروبية تشير إلى أن هذه الهجمات إلى جانب الإرهاب الفردي أصبحت أكثر خطورة، إذ تصيب البنى التحتية الحيوية وتُحدث اضطرابات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق، وتزرع شعورًا عامًا بالخوف، مثلما تفعل الذئاب المنفردة.

الإرهاب المعاصر في أوروبا ليس ظاهرة جديدة، بل امتداد لمسار طويل بدأ مع الفلسفات الأناركية والنيهيليزم، وتحوّل عبر الزمن ليصبح تهديدًا متعدد الأبعاد. التحولات التكنولوجية والجيوسياسية جعلت التهديد أكثر تنوعًا، من الهجمات الفردية إلى الرقمية، ومن التطرف اليميني إلى الإسلاموي، مستهدفًا الشباب والمجتمع المدني على حد سواء. يبقى الحل في مزيج من الوقاية المبكرة، الدعم الاجتماعي، والرد الأمني الفعّال، مع إدراك أنّ الإرهاب لم يعد مجرد فعل عنف، بل ظاهرة اجتماعية وسياسية وفلسفية متجذرة في التاريخ، تتكيف مع التكنولوجيا الحديثة والتحديات الجيوسياسية.

المراجع

Siret, Thomas. Terrorisme contemporain : aux origines historiques du phénomène : l’exemple de l’anarchisme. Institut pour la Justice, 2016.

ECCI – European Center for Counter Terrorism and Intelligence Reports, 2025. Extremism and Terrorism Trends in Europe.

UK Police and Federal Criminal Police (Bundeskriminalamt, BKA) Reports, 2024–2025.

Europol. European Union Terrorism Situation and Trend Report (TE-SAT), 2025.

Froehliche-Weihnacht, Warum Jugendliche in Deutschland zum islamistischen und rechtsextremen Extremismus neigen, ECCI Germany & Netherlands, 2025.

Dictionnaire de l’Académie française, Paris, 1694.

Babeuf, Gracchus. Journal de la liberté de la presse, 1794.

Thibaudeau, Antoine-Claire. Histoire du terrorisme dans le département de la Vienne, 1794.