من الأخت مايا إلى رواد طه.. رحلات بين القمع وحريّة الرأي

من الأخت مايا إلى رواد طه.. رحلات بين القمع وحريّة الرأي

  • ١٨ آذار ٢٠٢٤
  • جورج طوق

أقلّ من أربعٍ وعشرينَ ساعةٍ، هو الوقت الذي إستغرقتْه رحلة الممانعة من النشاط العصريّ الحثيث في الدفاع عن قدسيّة حرّيّة الرأي إلى التبّجّح في قدسيّة القمع والإسكات والتخوين وهدر الدم. عارضٌ ملازمٌ للشيزوفرينيا السياسيّة في لبنان.

طقوس القمع وهدر الدم لا تغيب طويلًا

 قبل ساعات، إنهمك ناشطون على ضِفّة الممانعة بحملةٍ في نبذِ محاولات قمع الراهبة مايا زيادة، والدفاع عن حريّتها في التعبير عن آرائها. أو عن بعضٍ من آرائها. لم تستغرق رحلتُهم في الوصول إلى تخوين الصحافيّ رواد طه، وقمع رأيه، وهدرِ دمه أكثر من لحظاتٍ سريعة. طقوس التخوين والتكفير وهدرِ الدم لا تغيب، طويلًا عن أحوال الطقس السياسيّ، شديد التقلّب، في الضفّة الممانِعة. وعلى الضفّة المواجهة لها، ليس الطقس أفضل حالًا، وإن كانت عواصفُ التخوين وهدر الدم، هناك، أقلّ حدّة.

غياب الصدق عن خلفيّات النضال الحقوقيّ

حريّة التعبير عن الرأي تتضمّن، أيضًا، حريّة عدم الموافقة عليه. جلّ ما يلزم هو، باختصار، تقبّل مفهوم الإختلاف. ليس صائبًا أن يُعاقب المرء على مجرّد إبداء رأيٍ مغايرٍ، أو على عدم الموافقة عليه. وإلّا، فَما حاجة النقاش والحوار والديموقراطيّة والإنتخاب والإستفتاء؟ ليس، على سبيل المثال، التوافق على دعوة الراهبة زيادة إلى الصلاة لمقاتلي حزب الله مُلزمًا. وجميلٌ هو دفاع الممانعين عن حريّة رأيها. الإشكاليّة الوحيدة في كلام مايا زيادة هي أنّها، بدعوتها تلك، لم تترك خيار عدم تلبيتها مُتاحًا. فهي أفتت في خيانة من قد لا يلبّونها، وفي ذلك تعدٍّ على حريّة مغايِري الرأي في التعبير. تفصيلٌ غاب عن نضال الممانعة، غير المألوف، في حقوق الإنسان. الواضح والمضحك في عُقم الجدل، حول ما قالته الراهبة، بين الممانعين والسياديّين هو الغياب المؤكّد لصدق خلفيّات النضال الحقوقيّ عن حملتَيّ الدفاع والتهجّم.

شتّان ما بين التشكيك والجدل وبين التخوين وهدرِ الدم

قدّم الصحفيّ رواد طه شريطًا من الوقائع في مسيرة الصراع الحمساويّ الإسرائيليّ. كانت أحقّية القضية الفلسطينيّة وحقد وإجرام إسرائيل جليَّين في تقريره المصوّر. أدان، بوضوحٍ، إستمتاع العدوّ بجنوحه نحو الإبادة وقتل الأطفال في غزّة. وثّق، أيضًا، تطرّف اليمين الإسرائيليّ وميول وزيرَيه، سموتريش وبن غفير، الإرهابيّة والحاقدة والفاسدة. مرّرَ، بعدها، لمحةً عن الوصول الحمساويّ العنفيّ إلى السُلطة، ضدّ الفتحاويّين، وعن حماس الحركة المُعلن في رفضها السلام عقب إتّفاقيّة أوسلو. ودلّ، بما لا جدال فيه، على إستثمار قادة حماس العملاق في غزّة السفليّة، دون أيّ التفاتٍ، منهم، لنوعيّة حياة مواطنيهم فوقها.

ليس محَرّمًا إنتقاد مضامين تقرير رواد طه. ومقارباته قد تشوبها مغالطاتٌ عدّة، أو قد تكون صائبة. ليس هنا بيت القصيد. صحيح أنّ توقيت الغوص في أخطاء حماس في عزّ طقوس القتل والتهجير والجوع ودموع الأطفال والأمهات هو أمرٌ مثير للجدل والتساؤل. لكن بين الجدل والتساؤل والإعتراض وبين التخوين وهدرِ الدم والوسم بتبنّي سرديّة العدوّ، شتّان.
إنتقل نشطاء حريّة الرأي الممانعون، برشاقةٍ معهودة، من النضال في سبيل حقّ الراهبة زيادة بالتعبير عن رأيها، المحبّب عندهم، إلى قمع رأي رواد طه ورجمه بالتخوين والإتّهام، دائم الجهوزيّة، بالعمالة بمجرّد إبتعاده، ولو قليلًا، عمّا هم يعتقدون. في إتّهام رواد طه بمساواته بين الطرفين شيءٌ من التجنّي والخبث. فهو جمعهما في الجنون فقط. تحدّث في تقصير حماس بحماية المدنيّين ودعم سبل حياتهم في غزّة كمسؤوليّة جوهريّة للحركة، لكنّه لم يساوِ بين أحقيّة النضال وهوس النجاة في الأنفاق وبين حقد الإحتلال. وإدمانه الإبادة والتدمير والتشريد وقتل الأطفال.

إستحواذ حركات الدين السياسيّ على سماتٍ إلهيّة

لا يبدو التطرّق إلى هفوةٍ بسيطةٍ أو زلّةٍ غير مقصودةٍ أو سوءِ تقديرٍ في سلوك حزب الله أو حركة حماس مُستساغًا أو مُتاحًا وآمنًا. مع العلم أنّ العِصمةَ عن الخطأ هي سمةٌ بحت إلهيّة، تصرّ الكيانات الدينيّة_السياسيّة على إستحواذها، وفي ذلك، وِفقَ عقائدها، كفرٌ وتجديف. شيءٌ ما فائق الغرابة في الدين السياسيّ، إذ لا يحوي التاريخ فصلًا واحدًا عن كيانٍ دينيّ_سياسيّ التزم أمانة عقائده. لم يحصل أن تسامح دينٌ سياسيّ مع الآخر أو مع رأيه، أو أن أظهر، على الأقل، ميلًا صادقًا إلى تقدير سعادة الإنسان والتسامح والسلام. لن تجد الكثير، في كتب التاريخ، ما تقرأه عن كياناتٍ مماثلةٍ تركت ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وتقرأ، بين كلّ صفحةٍ وأخرى، مآثر لها، لا تُحصى ولا تُعدّ، في نهب مال قيصر ومال الله في طريقها نحو إبادة الآراء الأخرى.