ميشال شيحا ومهرجان طرابلس.. الحرية والفرح
ميشال شيحا ومهرجان طرابلس.. الحرية والفرح
في طرابلس، خرج المتشددون يرفضون مهرجان الأسبوع الماضي، لكن الناس غنّوا. لم تُسقِط الهتافات المسرح، ولم تتوقف الموسيقى. كان المشهد أكبر من حفلة عابرة، كان إعلاناً أنّ الحرية هي ما يبقي لبنان حيّاً.
وحدها القرى الجنوبية والبقاعية، التي دفعت ثمن الحرب الأخيرة، ما زالت تعيش في ظلال البؤس: بيوت مهدمة، أراض محروقة، وجروح مفتوحة لا تُداوى. هناك صمت ثقيل، وهنا موسيقى ورقص. هناك حزن، وهنا فرح.
هذا التناقض ليس جديداً في لبنان. بلد يعيش دوماً على إيقاعين. موت في مكان واحتفالات في مكان آخر، جراح في منطقة ولدى طائفة، وسعادة عند غيرهما. ومع ذلك، فإن الفرح لا يُلغى، بل يستمر كأنه قدر لا يمكن مقاومته.
في طرابلس، خرج المتشددون يرفضون مهرجان الأسبوع الماضي، لكن الناس غنّوا. لم تُسقِط الهتافات المسرح، ولم تتوقف الموسيقى. كان المشهد أكبر من حفلة عابرة، كان إعلاناً أنّ الحرية هي ما يبقي لبنان حيّاً.
يمكن لحزب «التحرير» وشِلّة المتعصّبين أن يفرِدوا ذقونهم وتخلّفهم في الشوارع وعلى المنصّات الإلكترونية قدر ما يشاؤون، لكنهم قِلّة بائسة تعيش خارج الزمن وخارج المعنى. الظلام والرجعية لم ينتصرا على الموسيقى والفرح والحرية.
ميشال شيحا أدرك هذه المعادلة منذ زمن بعيد. قالها بوضوح: «لبنان يعيش بالحرية ويموت من دونها». الحرية، عنده، ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل المادة الأولية الوحيدة في بلد بلا موارد. الجنوب والبقاع، مهما غرقا في التعاسة، لا يمكن أن يُعاد بناؤهما إلا بروح الحرية، بروح المبادرة، بانفتاح الإقتصاد. أما المهرجانات، في الشمال والوسط، فهي الوجه الآخر للبقاء، مقاومة الفناء بالفرح.
شيحا كان يعرف أنّ الزراعة لا تكفي، وأن الصناعة ليست قدر لبنان. مهما دُعم قطاع الزراعة اللبناني فهو لن يضاهي ذلك الذي عند جيرانه، في سوريا وتركيا واسرائيل، وحتى لو دُعمت الصناعة اللبنانية فلن تتمكن من منافسة أحد. شيحا رأى أنّ مستقبل لبنان هو في الخدمات، في التجارة، في بيع الفرح، وفي الفردانية التي تتحرك بحرية وتخترق العالم. لذلك، كان يؤمن أنّ الدفاع عن الحرية الإقتصادية يوازي الدفاع عن أي أرض أو مورد طبيعي. إنّها الذهب الوحيد الذي نملكه.
لكن الحرية عنده لم تكن محصورة في السوق، بل في الروح أيضاً. الحرية السياسية، حرية الكلمة، حرية الغناء، حرية الفرد أن يعبّر عن نفسه بلا خوف. فحين يخرج متشددون ليمنعوا مهرجاناً، فإنّهم يضربون أساس الوجود اللبناني. وحين تصمد طرابلس بالغناء، فإنّها تعلن أنّ لبنان لا يستسلم للإنغلاق.
صحيح أنّ الجنوب والبقاع اليوم غارقان في الركام، لكن حتى هناك، سيأتي يوم تعود فيه الحياة. فلبنان لا يُقاس بمقدار الخراب الذي يطاله، بل بقدرته على النهوض بعده. والحرية، كما رآها شيحا، هي التي تسمح لهذا النهوض أن يتحقق.
لقد جُرِّب السلاح والوصاية والقمع، لكنها جميعاً لم تبنِ وطناً. أما الحرية، فقد أثبتت وحدها أنّها قادرة أن تبقيه قائماً، ولو جريحاً. لأّن اللبناني، كما قال شيحا، عاشق للحرية، ولأنّه يعرف في أعماقه أنّ لا بقاء له من دونها.
لهذا، فإنّ المهرجان في طرابلس ليس مجرد ليلة غناء. إنّه رسالة إلى لبنان كله. رسالة بأنّ الفرح حقّ، وأنّ الحرية خبز هذا الوطن الوحيد. ومن يحاول أن يخنقهما، إنّما يخنق لبنان.