زمن «الفلاتر»: البحث عن الذات في عالم الصور المعدّلة

زمن «الفلاتر»: البحث عن الذات في عالم الصور المعدّلة

  • ١٩ آب ٢٠٢٤
  • خاص بيروت تايم

نلتقط صورًا لأنفسنا بين الحين والآخر، ونشعر أحيانًا بعدم الرضى. هذا طبيعي تمامًا. لكن ماذا لو تحوّل هذا الشعور إلى هاجس؟ ماذا لو أصبحت هذه الصور مرآة تعكس لنا فقط ما لا نحب؟ إنّ سهولة التقاط الصور، والتي لم يشهدها التاريخ من قبل، هي سيف ذو حدّين. فبينما تُتيح لنا توثيق لحظاتنا الجميلة، قد تُغرقنا في دوّامة مُقلقة من مُطاردة صورة مثالية بعيدة المنال. هنا تكمن المُشكلة الحقيقية، عندما يتحوّل تقديرنا لذاتنا إلى رهينة لصورة، ونُصبح أسرى لهوس كمال المظهر الخارجي.

يُشكّل انتشار فلاتر وتطبيقات تعديل الصور على وسائل التواصل الاجتماعيّ خطرًا مُتزايدًا على الصحة النفسية للمراهقين خاصة لأنهم في مرحلة نمو صورتهم الذاتية، حيث تُقدّم هذه الأدوات معيارًا زائفًا وغير واقعيّ للجمال، مما يُؤثّر سلبًا على نظرتهم لأنفسهم وثقتهم بذاتهم.
كما يؤثر على نظرتنا كباراً وصغاراً الى أنفسنا والى الآخرين، فالتقدم في العمر وعيوب الجسم الصغيرة باتت عاراً، فلا مجال للنقص فيك، عليك أن تكون كاملاً في الشكل، في عالم تتقلص فيه كل معايير وجودك الحقيقي كإنسان لصالح هذا«العصر البلاستيكي المشمع»، أو أن تخضع لسلطة الفلاتر والفوتشوبات للتماشى مع نظام موضة العصر، فلا مكان للشعور بالإمتنان على ما أعطته الطبيعة للشخص، عليك دائماً أن تنظر الى صورتك «قبل وبعد». وتشير الدراسات الى أنّ المراهقين والصغار هم الأكثر عرضة لمخاطر الصور المعدلة لأنفسهم كونهم يكبرون في التماس مع هذا العالم الإفتراضي للجمال الوهمي.

تذكّر بدون فلتر:
بعد التصفّح المُستمرّ لوسائل التواصل الاجتماعيّ، نشعر بعدم الرضى عن أنفسنا وعن حياتنا. و تضعنا  في حلقة مُفرغة من مُقارنة الذات، والتي قد يكون من الصعب الخروج منها.  ولنتذكّر أنّ ما نراه من المُرجّح أن يكون مُزيّفًا ومُخادعًا.  تُشير الدراسات إلى أنّ 90٪ من النساء اليوم يستخدمن الفلاتر على صورهنّ ومنشوراتهنّ.  لا شكّ أنّ الفلاتر وأدوات التعديل الأخرى مُمتعة ومُسلّية للاستكشاف، ولكن من المفترض ألا تُملي علينا كيف نبدو، وأن تبقى نسختنا غير المُعدّلة هي المقياس. في بحث أجراه معهد كليفلاند الطبي الأميركي يقول أحد أطباء التجميل أنّ الكثيرين يأتون إليه بعد إجتماعات طويلة على تطبيق «زوم» مع زملائهم قائلين «إنّي بحاجة الى عملية تعديل أو شدّ للوجه لقد كنت أحدق في وجهي طوال الوقت ورأيت الكثير من العيوب، دون أن يأخذوا بعين الإعتبار الزوايا الخاطئة للجلوس أو الإضاءة السيئة» 

تُتيح هذه التطبيقات للمستخدمين، خاصةً المراهقين، إمكانية تغيير ملامح وجوههم وأجسادهم بسهولة، بدءًا من إخفاء عيوب البشرة وتبييض الأسنان وصولًا إلى تغيير حجم وشكل ملامح الوجه. وعلى الرغم من أنّ استخدام هذه الفلاتر قد يبدو مُسلّيًا للوهلة الأولى، إلّا أنّ الإفراط في استخدامها يُمكن أن يُؤدّي إلى عواقب وخيمة على الصحة النفسية للمراهقين خاصة.

تكمن خطورة هذه التطبيقات في أنّها:

إنّها تخلق جيلًا مهووسًا بالمظهر
إنّ الإهتمام بمظهر الشخص شيء، لكن الهوس به شيء مختلف تمامًا. ليس سراً أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تدفع الى الواجهة المظهر الجيد. ولأّنها مهمة للغاية بالنسبة للمراهقين، فقد ينتهي بهم الأمر مقتنعين بأنّ المظهر هو كل ما يعرّف عن وجود الشخص. فيتراجع أمامه السلوك والمهارات والكفاءة والقدرة على الإنجاز الفردي .
و تُرسّخ معايير جمال غير واقعية، تُصوّر الفلاتر والتعديلات صوراً «مثالية» لا تشبه الواقع، مما يجعل المراهقين ينظرون لأنفسهم بصورة سلبية ويُقارنون أنفسهم مع غيرهم بشكلٍ مُستمرّ.
كما تُؤثّر على تقدير الذات، فالصور المُعدّلة، تشعرهم بعدم الرضى على مظهرهم الحقيقيّ، مما يُؤدّي إلى تدني ثقتهم بأنفسهم وتكوين صورة ذاتية سلبية. 
ومن مفاعيلها اضطرابات في الأكل، حيث يحاولون الوصول إلى صورة الجسد «المثالية» التي تُروج لها وسائل التواصل الاجتماعيّ، مما قد يُؤدّي بهم إلى اتّباع عادات غذائية غير صحية واضطرابات في الأكل.
وهذا يفاقم من اضطراب تشوّه الجسم وهي حالة صحية عقلية ((BDD).body dysmorphic disorder)، إذ يعاني بعض الأشخاص من اضطراب تشوّه الجسم، فيُصابون بالخجل وبهوس مُفرط بعيوب مُتخيّلة في مظهرهم، فينجرفون في صراع مع صورتهم الذاتية، ولأنّ في الواقع يصعب تعديل طبيعة الشكل، فيما بنقرة واحدة على الهاتف المحمول يحصل الشخص على شكله المثالي المتخيل. فينزلق الفرد الى لعبة المقارنة مع كل ما يتدوال من صور وتطبيقات فيشل إحترامه لنفسه، و كما القول المأثور هذه الوسائل هي «لص الفرح».  أما في المقلب الآخر فالملفت ربما  أنّ الاشخاص وبشكل غير واعٍ بحاجة الى إثبات أنّ القليل من العيوب في الشكل ليست عاراً أو خللاً في الشخصية خاصة إذا كانت الصورة المنشورة من شخصية مشهورة تصنّف في خانة الجميلات والدليل كيف إنتشرت صورة بشكل كبير ولاقت إستحساناً وتداولاً نشرتها جوليا روبرتس سابقاً دون تعديل تظهر خطوط التجاعيد الكثيرة والجميلة على وجهها.

أما التأثير على الصحة النفسية فقد أظهرت الدراسات النفسية أنّ الاستخدام المُفرط لوسائل التواصل الاجتماعيّ وتعرّض المراهقين خصوصاً المستمرّ  للصور المُعدّلة يُمكن أن يُؤدّي إلى زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب، والقلق، والأفكار الانتحارية،حيث يقترح الأطباء اليوم لمواجهة هذه الحالات العلاج بالكلام أو العلاج السلوكي المعرفي (Cognitive behavioral therapy (CBT). 

أما كيف تتوقف عن الهوس بعيوبك، ينصح الخبراء ، الأخذ بفترات راحة من تصفح الصور، التي تسبّب تدني إحترام الشخص لذاته، وتبنّي اليقظة الذهنية والتفكير النقدي بمعنى أنّ الصور التي تشاهد غالبًا ما تكون مُعدّلة وغير واقعية. وأيضاً التدرّب على إحتضان النقص، باعتبار أنّ الأبحاث تشير إلى أنّ ٢٪ فقط من سكان العالم  يمتلكون وجهاً متماثلاً، وحتى أنّ التماثل لا يساوي الكمال، وأكثر من ذلك فإنّ تقييم التماثل في الشكل والوجه للشخصيات المصنوعة من الذكاء الإصطناعي لا يقارب الكمال التام، فكيف حري بالإنسان أن يقارب الكمال. وبالتالي ينصح الاطباء النفسيون ببناء صورة ذاتية صحية تستهدف «حياد شكل الجسد» بمثابة حلّ وسطي يركز على القبول الذاتي، وهذا يساعد على الإعتراف بقيود التكنولوجيا،وأنّ الإنسان أكثر بكثير مما تظهره صورة! فهو كيان ثلاثي الأبعاد ينبض بالحياة، يتحرك ويتفاعل بطرق لا تستطيع عدسة الكاميرا التقاطها. وأنّ الصور ومقاطع الفيديو هي مجرد لمحات خاطفة من الزمن، وليست انعكاسًا دقيقًا لكليّته.