إعتقالات وتضييق ومنع التطوير.. البيانات ساحة لحربٍ باردةٍ جديدة

إعتقالات وتضييق ومنع التطوير.. البيانات ساحة لحربٍ باردةٍ جديدة

  • ٢٧ آب ٢٠٢٤
  • غادة حدّاد

تمكن السلاح النووي من تقليل الحروب العسكرية، وادت التكنولوجيا إلى حروب باردة من نوع جديد، حروب على البيانات.

تأخذ هذه الحروب أشكالاً من القمع، والاعتقالات، والسباق في شراء شركات البيانات، ومنع دول معينة من تطوير تكنولوجياتها. إحدى مظاهر هذه الحروب، محاولات الولايات المتحدة الأميركية شراء تطبيق "تيك توك" الصيني، وإعتقال مؤسس تطبيق "تيلغرام"، ومعها الحرب على "كلاود"  السحابة، بين الصين والولايات المتحدة الاميركة، فالبيانات هي ثروة الأمم الجديدة، في ظل الثورة التكنولوجيا الرابعة.

يوم السبت إعتقل مؤسس تطبيق "تيلغرام" بافيل دوروف في باريس، بتهم جرائم الكترونية، تتعلق بالمعاملات غير القانونية، واستغلال الأطفال جنسيًا، والاحتيال، ورفض التعاون مع السلطات.

يعتبر تطبيق "تيلغرام" ملاذًا للجماعات التي تمّ تهميشها أو حظرها من منصات أخرى، مثل مؤيدي العملات الرقمية. وأعربت روسيا عن قلقها إزاء إعتقال دوروف، رغم أنّها استولت سابقاً على شركته الأولى   VKontakte.

وتعليقاً على إعتقال دوروف، كتب الموظف السابق في وكالة الاستخبارات ووكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية إدوارد سنودن "أولاً، جاءوا من أجل تيك توك، ولم أتحدث - لأنّني لم أكن في الثانية عشرة من عمري. ثم جاءوا من أجل تيلغرام، ولم أتحدث - لأنّني كنت أستخدم تطبيقًا آخر أو شيء من هذا القبيل. ثم جاءوا من أجل كل منصة أخرى حرفيًا للمعارضة، ولم أتحدث - لأنّه يا أخي كيف يمكنني أن أفعل ذلك؟ هذه هي النقطة الأساسية استيقظ، استيقظ". سنودن الذي سرب تفاصيل برنامج التجسس بريسم إلى الصحافة عام 2013، اعتبر في تغريدة منفصلة أنّ "اعتقال دوروف هو اعتداء على حقوق الإنسان الأساسية في التعبير وتكوين الجمعيات. أنا مندهش وحزين للغاية لأنّ ماكرون إنحدر إلى مستوى أخذ الرهائن كوسيلة للوصول إلى الاتصالات الخاصة. هذا لا يخفض فرنسا فحسب، بل والعالم أيضًا".

الثورات التكنولوجيا ولّدت أنماطاً من الإنتاج، نقلت البشرية من حالة التخلف، إلى واقع متمدن، يقلل من إستخدام الانسان لقوته البدنية، ليبني اقتصاده على قوته الذهنية. من محرك البخار، إلى سكك الحديد، إلى الطاقة النووية والإلكترونيات، وصولاً إلى التكنولوجيا الرقمية، بتنا اليوم في زمن الروبوتات والذكاء الاصطناعي، ورغم كل المخاوف من زيادة البطالة وتقليص فرص العمل، فإنّ ترويض هذه الثورة، من المفروص أن يوجه لخدمة الناس، عوضاً من بقائها في يد من يملك ثمن شرائها، ويمكن أن تؤدي إلى نموذج متقدم ومريح للإنسان، لينتج ويعيش بأقل مجهود.

من هنا تتسابق الدول على تطوير قطاعاتها التكنولوجيا، ويغدو إيلون ماسك أحد أبرز المؤثرين في السياسات الأميركية، وتسعى الصين إلى اللحاق بالقافلة وحتى السباق يحتد بين الدول الغربية في العالم التكنولوجي. 

تتسابق الدول على السحابة، وهو نظام لتوفير خدمات الكمبيوتر عبر الإنترنت، عوضاً عن استخدام جهاز الكمبيوتر الخاص بك فقط، إذ يمكن إستخدام السحابة لتخزين البيانات، تشغيل البرامج، أو حتى تطوير تطبيقات جديدة.

السحابة أساسية في مجال تطوير وتوفير أحدث التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الكبيرة. كما تساهم في خفض النفقات التشغيلية للشركات من خلال استخدام الموارد السحابية، عوضاً عن شراء وصيانة الأجهزة. هذا وتسعى الدول لتأمين بياناتها وحمايتها من الهجمات الإلكترونية، لذا فإنّ امتلاك بنية تحتية سحابية قوية يعد ضروريًا، حيث أنّ التحكم في البيانات والمعلومات الحساسة أمر حيويّ للأمن القومي. ترغب الدول في التأكد من أنّ بياناتها يتم تخزينها ومعالجتها بطريقة تحميها من التهديدات الخارجية.

وباتت السحابة مجالاً جديداً في الصراع الدولي، بهدف السيطرة التكنولوجية، وهذه حرب دائرة بشكلٍ رئيسي بين الصين والولايات المتحدة الأميركية.

تعتبر الولايات المتحدة أنّ الصين تهدد أمنها القوميّ وتحاول سرقة البيانات الحساسة الأمريكية، ولجأت إلى العمل للقضاء على وجود التكنولوجيا الصينية في أميركا. وفي بداية العام، فرضت الولايات المتحدة ضوابط تصدير على صناعة أشباه الموصلات الصينية، وهي مواد تستخدم في صناعة المكونات الإلكترونية مثل الرقائق والمعالجات والدوائر المتكاملة، وهي أساسية في جميع الأجهزة الإلكترونية الحديثة من الهواتف الذكية إلى أجهزة الكمبيوتر. 

بعدها إتخذت حرب البيانات شكلاً جديداً، حول منصات السحابة المستخدمة لنماذج الذكاء الاصطناعي (AI). وبما أنّ الولايات المتحدة لا تزال تتقدم بشكلٍ كبير عن الصين في تقنية السحابة، حاولت إدارة جو بايدن وقف تطوير الصين للذكاء الاصطناعي باستخدام البنية التحتية السحابية الأمريكية، من خلال الإبلاغ عن مستخدمي السحابة. 

تستخدم العديد من الشركات التكنولوجية الصينية مزودي السحابة الأمريكيين كخدمة بنية تحتية (IaaS). وأبرز الشركات الصينية في سوق السحابة Alibaba Cloud، وتنسنت كلاود، وهواوي كلاود. تعمل هذه الشركات على توسيع قدراتها وبنيتها التحتية بسرعة.

وفي محاولة لمواجهتها، اقترحت وزارة التجارة الأمريكية قواعد لتنظيم مزودي خدمات السحابة مثل أمازون ويب سيرفيسز، ومايكروسوفت أزور، وغوغل كلاود. وتستهدف هذه القواعد ضمان مراقبة وإبلاغ استخدام السحابة، وتدريب الذكاء الاصطناعي من قبل المطورين في البلدان غير الحليفة للولايات المتحدة، وتحديداً الصين.

وستتطلب اللوائح المقترحة الخدمة الإلزامية "اعرف عميلك" (KYC)، شبيهة بتلك المستخدمة في قطاع الخدمات المالية داخل صناعة السحابة، بهدف الحصول على نفس المعلومات من البائعين الأجانب في البلدان الأخرى، والإبلاغ عن الامتثال إلى وزارة التجارة الأمريكية، في حال تم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة باستخدام IaaS الخاصة بهم. وتمنح "التدابير الخاصة" الحق لمزودي السحابة بتقييد الوصول إلى IaaS الخاص بهم من قبل بعض العملاء أو الجهات، مثل الصين. ويمكن فرض ذلك من قبل الشركات الأمريكية عندما يستخدم عدد كبير من الكيانات الأجنبية بشكل مباشر، أو إعادة بيع IaaS الأمريكية، أو عندما تجد شركة السحابة أن شركة معينة استخدمت IaaS الخاصة بهم بشكلٍ متكرر لأغراض ضارة. 

وفي حال نجحت الولايات المتحدة بتقييد تطوير الصين لسحابة خاصة بها، ستحافظ على ريادتها في تطوير الذكاء الاصطناعي، وتحرم الصين من الخدمات المتقدمة اللازمة، لدفع طموحاتها في تطوير الذكاء الاصطناعي. 

وخلف هذه الشركات أرباح بمليارات الدولارت من خدمات السحابة، وتتصدر أمازون ويب سيرفيسز حصة السوق الأكبر، تليها أزور وغوغل كلاود. إذ بلغت إيرادات أمازون ويب سيرفيسز في الربع الأول من عام 2024، 23 مليار دولار، ومايكروسوفت أزور 21 مليار دولار، وغوغل كلاود 8 مليار دولار. على المقلب الصيني، سجلت  Alibaba Cloud إيرادات تقارب الـ  7 مليارات دولار، وتنسنت كلاود 4.5 مليار دولار، وهواوي كلاود 5 مليار دولار.

في أحدث جهد تبذله واشنطن لمنع بكين من تطوير الذكاء الاصطناعي، بدأت الإدارة الأميركية في حزيران الفائت التحقيق مع شركات "تشاينا موبايل" و"تشاينا تيليكوم" و"تشاينا يونيكوم"، بسبب مخاوف من أنّ هذه الشركات قد تستغل وصولها إلى البيانات الأمريكية، من خلال أنشطتها السحابية والإنترنت في الولايات المتحدة لتزويد بكين بها. 

لا تزال هذه الشركات تحتفظ بحضور صغير في الولايات المتحدة، من خلال توفير خدمات سحابية وتوجيه حركة الإنترنت الأمريكية بالجملة، مما يمنحها وصولاً إلى بيانات الأمريكيين، حتى بعد أن منعها منظمو الاتصالات من تقديم خدمات الهاتف والإنترنت بالتجزئة في الولايات المتحدة.

وحتى اليوم، يسيطر مزودو السحابة الاميركيين على السوق، لكن الشروط الأخيرة أدت إلى تراجع تنافسيتهم، بسبب خوف الشركات الأجنبية على خصوصيتها. في المقابل تستثمر الصين في البحث والتطوير تقنيات سحابية محلية، تتجاوز الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية. فتعمل الشركات الصينية على تصميم وتطوير معالجات، وأدوات سحابية خاصة بها، كما تتعاون مع مزودين غير أميركيين، من أوروبا أو أسيا.

وتسعى الصين للتوسع عالمياً، في محاولة لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية ويعزز من وجودها العالمي.

الخطة الأبرز هي في التلاعب بالانظمة، حيث تستغل بعض الشركات الصينية قوانين التصدير والتوريد بطرق غير مباشرة لتجاوز القيود الأمريكية، مثلاُ قد تستورد التكنولوجيا من دول أخرى أو تقوم بإعادة تصدير المكونات من خلال وسطاء. كما تستثمر في تطوير تقنيات جديدة مثل الحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي، التي قد توفر بدائل للتكنولوجيا السحابية التقليدية. هذه التقنيات يمكن أن تساعد الصين في تقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأمريكية. وتحاول تجاوز القيود التكنولوجية، عبر الاستفادة من تقنيات مفتوحة المصادر.

تلتزم الدولة الصينية بتحقيق الاستقلال التكنولوجي، وتعزيز قدرتها التنافسية في مجال الحوسبة السحابية. وأصدرت الصين الخطة الخمسية الصينية، بهدف تطوير تكنولوجيا المعلومات والبنية التحتية السحابية كأولوية في خططها الخمسية. هذه الخطط تركز على تعزيز الابتكار في مجال السحابة، ودعم الشركات الصينية في تطوير تقنيات جديدة وتعزيز قدراتها التنافسية عالميًا.

وفي استراتيجية "صنع في الصين 2025"، عمل لتعزيز الابتكار في تكنولوجيا المعلومات والحوسبة السحابية، لتحسين القدرات المحلية لتطوير وتصنيع مكونات السحابة، وتقديم حلول تكنولوجية متقدمة.