ثمن الأخوّة: ما قدمه لبنان للقضية الفلسطينية وما تلقاه

ثمن الأخوّة: ما قدمه لبنان للقضية الفلسطينية وما تلقاه

  • ٠٩ أيلول ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

الشعب اللبناني يستحق أكثر من أن يكون مجرد ورقة «جوكر» في لعبة الآخرين، ترمى عند الحاجة دون اكتراث

 
113.059 نازح لبناني من الجنوب، و589 ضحية هو العدد الحالي لما خلفته الحرب المستمرة منذ 8 تشرين الأول الماضي، بحسب «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية». مغامرة «حزب الله» غير المحسوبة لها أثمانها، فيما الجنوب اللبناني، وتحديداً القرى الحدودية، هي التي دفعت الثمن الأغلى حتى الساعة.

يستكمل «المكتب» أرقامه التي نشرها في السادس من أيلول الحالي: 1842 هكتاراً من الأراضي الزراعية قد تضررت، حوالي 4000 مبنى تدمر كلياً، و340 ألف حيوان زراعي قد نفق. هذه كلها أرقام «متواضعة» وأقل سوءاً مما تنشره بعض الدراسات والتقارير اللبنانية، والتي غالباً ما تكون أكثر تشعباً وعمومية.

ويبقى السؤال: ماذا استفاد لبنان من كل هذه المغامرة؟ ما الذي جنيناه كلبنانيين من وراء فتح «جبهة إسناد» لقطاع غزة؟ تقول الجملة الشهيرة: أين الحكمة في إشعال بيتنا تضامناً مع بيت جارنا الذي يحترق؟ وفعلاً، لا حكمة في إشعال لبنان إكراماً لغزة أو غيرها، فيما لم نرَ غزة أو غيرها يوماً تحرق نفسها إكراماً لعيوننا.

يذكر القيادي الشيوعي جورج حاوي، في إحدى مقابلاته حول الحرب اللبنانية، كيف أنّه كان«على يقين» أنّ الشعوب العربية ستهب كلها لنجدة لبنان إن دخلت إسرائيل العاصمة بيروت كما حدث عام 1982. إلا أنّه «تفاجأ» أنّ مظاهرة مليونية قد انطلقت في الجزائر العاصمة يوم اجتياح بيروت، لا حباً بالعاصمة اللبنانية أو بسكانها، إنّما فرحاً بفوز منتخب الجزائر على منتخب ألمانيا في كأس العالم لكرة القدم. لم يهب أحد من أجلنا، ولن يهب. 

لا يذكر التاريخ أي تضامن عربي جدّي، شعبي أو عسكري، مع لبنان يوم اجتاحته الفصائل الفلسطينية عام 1969، كما في عام 1973 والعام 1975. لا بل، من النافل القول إنّ الشعوب والحكومات العربية كانت، بمعظمها، مؤيدة لضرب السيادة اللبنانية وتقوية العنصر الفلسطيني المسلح على الشرعية اللبنانية. كيف ننسى «مكرمات» الرئيس الليبي، معمَّر القذافي، وإغداقه السلاح على الفصائل الفلسطينية في بداية الحرب اللبنانية؟ كيف ننسى سوريا والعراق ومصر وتوقهم لرؤية النموذج اللبناني مشلّعاً ومكسوراً أواسط السبعينيات؟

وحدها السعودية، ومعها بعض الحكومات الخليجية، تضامنت مع لبنان في فترة كبوته. حاولت القيام بمبادرة سياسية من هنا أو إعطاء هبة مالية من هناك. بعض أعمالهم أفادت، فيما البعض الآخر كنّا ناكري الجميل له، إلا أنّنا لم نرَ الكثير من التضامن مع لبنان من جهات العالم الأخرى. 

ماذا قدمت القضية الفلسطينية، أو فلسطين كلها حتى، للبنان؟ قدمنا لها مستقبلنا ونمو اقتصادنا. قدمنا لها الشهداء والضحايا ودمار مدننا وإحراق قرانا. قدمنا لها تضامناً شعبياً وسياسياً وعسكرياً منذ عام 1948 وحتى اليوم. ماذا قدمت لنا القضية الفلسطينية غير الأشعار والشعارات وبعض المرثيات حول الأخوة والكرامة والعزة والصمود والتصدي وبقية الترهات الأدبية التي لا تبني دولاً ولا تقيم شعوباً من الحضيض؟

وها نحن اليوم، نعيد تكرار التاريخ كأنّنا لم نتعلم منه شيئاً. نفتح جبهات تفوق قدراتنا، وندفع الثمن وحدنا دون سند أو حتى أفق للمغامرة. نعود إلى مشهد الخراب والمآسي التي خلّفتها سياسات مغامِرة لا تنظر إلا إلى مصالحها الفئوية، تاركةً اللبنانيين يعانون وحدهم تحت وطأة النار والدمار والتهجير. ما أشد الألم حين تكون ثماره دماءً لا ناقة لنا فيها ولا جمل، دماء تُسفَك باسم شعارات وقضايا لم تقدّم لنا يوماً سوى الخيبات والويلات، بينما معظم الشعوب الأخرى تنعم بالأمان والازدهار، غير مبالية بما يدفعه لبنان، أو حتى فلسطين، من أثمان باهظة.

لقد أعطينا للقضية الفلسطينية ما يفوق طاقتنا وبكثير، وما زلنا نغرق في مآسينا بسبب تلك التضحيات التي قدمناها على مر السنوات الماضية. لكن، أي ثمار جنتها أرض الأرز من هذا العطاء غير المشروط؟ حين سُفِكت دماء شبابنا وتهدمت منازلنا واحترقت حقولنا، فيما لم نسمع سوى خطب رنانة ومظاهرات عابرة لشعوب أخرى اهتمت بنمائها وأحوالها، وتخطتنا في التنمية والحضور.

اليوم، ونحن نقف على أطلال تلك المغامرات غير المحسوبة، نتساءل: إلى متى سنظل ندفع أثماناً باهظة مقابل قضايا لم تقدم لنا شيئاً إيجابياً؟ إلى متى سيظل بلدنا ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية ورفع شارات القضايا التي لا قدرة لنا على حملها، بينما أبناؤه يعيشون في حالة دائمة من الخوف والتشتت والعوز؟

إنّه الوقت لتغيير المسار. لا يمكن للبنان أن يبقى رهينة لمشاريع وأجندات خارجية ترهق شعبه وتستنزف موارده. نحن بحاجة إلى سياسة تستند إلى مصالح لبنان أولاً، تنظر إلى الداخل وتعمل على بناء دولة مستقرة وقوية لها مكانتها بين الأمم، لا أمة تُضحي بأبنائها في أتون معارك الآخرين.

الشعب اللبناني يستحق أكثر من أن يكون مجرد ورقة «جوكر» في لعبة الآخرين، ترمى عند الحاجة دون اكتراث. لقد حان الوقت لنقف مع أنفسنا، نعيد حساباتنا، ونسأل: ماذا يريد لبنان وماذا نريد نحن؟ وكيف نبني وطناً يعيش فيه الجميع بأمان وكرامة، بعيداً عن الحروب والمغامرات التي لا تجلب سوى الدمار وبعض الشعارات الخشبية البالية من زمن مضى؟