التفكك الوطني وتبلد الإحساس: كيف يسهم الإعلام في تشكيل الواقع؟

التفكك الوطني وتبلد الإحساس: كيف يسهم الإعلام في تشكيل الواقع؟

  • ١٠ أيلول ٢٠٢٤
  • تيريزا كرم

"العالم لن يُدمَر من قبل الأشرار، بل من أولئك الذين يشاهدون ولا يفعلون شيئًا." – ألبرت أينشتاين

 
تكرار الأزمات في لبنان أدخل المواطنين في حالة من الجمود العاطفي، وكأنهم يقفون أمام مشهد ثابت لا يتغير. سرقة أموال الشعب، ودموع الأمهات والأرامل والأيتام جراء الحروب والانفجارات المتكررة، مثل انفجار 4 آب، ثاني أكبر انفجار غير نووي في التاريخ، وأزمة النفايات والفساد المستشري في كل مفاصل الدولة، ومشاهد الموت على أبواب المستشفيات، كلها مشاهد صادمة. رغم ذلك، يبدو أن المواطن اللبناني يتعامل معها وكأنه "صنم" غير معني ولا يتفاعل مع الظلم.

هذه السلسلة المتكررة من المآسي جعلت الاستجابة الشعبية تبدو باهتة وغير مبالية. السؤال هنا: ما الذي أوصل المواطن اللبناني إلى هذه الحالة من التبلد؟ وكيف أسهم الإعلام في تشكيل هذه الحالة؟

تبلد الإحساس هو انخفاض استجابات الفرد تجاه الأحداث العنيفة أو المآسي المستمرة. التعرض المتكرر لمشاهد العنف عبر وسائل الإعلام يعزز من الاعتقاد بأن العنف هو الحل الطبيعي للصراعات، مما يؤدي إلى ضعف المواقف السلبية تجاه المآسي وتقلص التعاطف مع الضحايا. العديد من الدراسات تشير إلى أن التعرض المزمن لوسائل الإعلام العنيفة يمكن أن يؤدي إلى فقدان التحسس على المدى الطويل، بينما تظهر بعض الأبحاث أن الاستجابات العاطفية تجاه العنف يمكن أن تتغير حتى بعد التعرض لمرة واحدة فقط لمشهد عنف، مما يؤدي إلى زيادة العدوانية وانخفاض التعاطف.

أزمة النفايات التي بدأت في عام 2015 تعتبر مثالاً على كيف تتحول الأزمات إلى مشاهد مألوفة لا تثير رد فعل يُذكر. أكوام القمامة التي كانت تُغضب الناس في البداية أصبحت الآن جزءًا من شوارع لبنان، وكأن رائحتها لم تعد تؤثر على مشاعر المواطنين. هذا التحول من الغضب إلى القبول الهادئ يعكس تبلد الإحساس الجماعي. الفساد الحكومي أيضاً أصبح وكأنه جزء من الحياة اليومية. فضائح الفساد التي كانت تشعل الاحتجاجات وتثير الغضب، لم تعد تسبب نفس رد الفعل. على سبيل المثال، بعد إلقاء القبض على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لم نشهد مطالبات جماهيرية بمحاسبة المسؤولين عن نهب أموال الشعب، بل استمر الناس في حياتهم وكأن شيئاً لم يحدث.

في مقابلة خاصة مع الدكتور جوزيف عجمي، أستاذ الإعلام والقضايا المعاصرة في جامعة سيدة اللويزة، تحدث عن ظاهرة تبلد الإحساس التي قد تنجم عن التعرض المستمر لمشاهد العنف. وأوضح عجمي أن بعض الأفراد قد يصلون إلى حالة من عدم الإحساس، بحيث يصبح تفاعلهم مع مشاهد العنف مماثلاً لتفاعلهم مع أحداث خيالية.

طرح الدكتور عجمي سؤالاً محورياً: هل يعزز الإعلام تغطية مشاهد العنف بسبب قدرة المشاهدين على التحمل، أم أنه تبلد حس المشاهدين نتيجة عرض الإعلام لتلك المشاهد؟ وأكد عجمي أن هناك دائرة مغلقة تتكرر فيها هذه الظاهرة، حيث أشار إلى أن الأزمات الكبيرة في لبنان، من الحروب الأهلية إلى انفجار 4 آب وجائحة كورونا، والأزمة الاقتصادية، والحرب في غزة، جعلت ردود الفعل تجاه هذه الأزمات تبدو وكأنها أصبحت مألوفة.

أوضح عجمي أن الشعب اللبناني، الذي يعاني من تكرار الأزمات، أصبح يشعر بأن الأمور لا يمكن أن تسوء أكثر مما هي عليه. وأشار إلى أن هذه الأزمات أدت إلى نوع من السخرية والتقليل من أهمية المشاكل، وهو ما يعكس التأقلم وتبلد الإحساس. كما أكد عجمي أن وسائل الإعلام، سواء كانت مدركة أو غير مدركة، تساهم في هذه الحالة المرضية لدى المواطنين. وشدد على أهمية تناول موضوع تبلد الإحساس بجدية، داعياً المدارس والجامعات والشركات إلى الاهتمام بالحالة النفسية للمواطنين، وخاصةً الصغار منهم. وأضاف أن المسؤولية تقع على عاتق الدولة والمؤسسات الاجتماعية ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة التعليم. وبيّن أن الأزمات النفسية قد تكون بنفس خطورة الأزمات الأخرى.

أوضح عجمي أن الإعلام يلعب دور الوسيط بين المساعد النفسي والمشاهدين المتعرضين لمشاهد العنف والحروب والأزمات. ورغم أن الإعلام ليس مسؤولاً عن إيجاد الحلول، فإن دوره يتجلى في نقل الصورة والأحداث بطريقة محترفة وأخلاقية. وأشار إلى أن الإعلام يقتصر على اقتراح الحلول وتحليل الأحداث وعكس آراء الجميع. وبيّن أن الإعلاميين هم أيضاً مواطنون يمرون بمشاكل اقتصادية ونفسية وسياسية، ولا يمكنهم تجاهل الأحداث لأنها تفرض نفسها على الجميع، مما يجعل من الضروري أن ينقل الإعلام الحقيقة والواقع إلى اللبنانيين.

في النهاية، يتضح أن الإعلام اللبناني، سواء كان ذلك عن قصد أو دون قصد، قد ساهم في تحويل الأزمات المتكررة إلى أحداث روتينية تثير القليل من الغضب أو المطالبة بالتغيير. يجب على الإعلام أن يلعب دوراً أكثر فعالية في كسر دائرة الجمود العاطفي وتعزيز الاستجابة الإيجابية نحو التغيير، مع الحرص على تجنب زيادة الإحباط وتبلد الإحساس. فهذه الحالة ليست مجرد مشكلة عاطفية، بل هي مسألة ذات خطورة بالغة