أبطال وقتلة: القوميون السوريون واغتيال رياض الصلح

أبطال وقتلة: القوميون السوريون واغتيال رياض الصلح

  • ١٦ أيلول ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

وإن كان القوميون السوريون لا يجدون أي إنجاز يحتفلون به طوال العام سوى اغتيال بشير الجميّل، لا يزال أنصار هذا الأخير كُثر، ويرون في بشير الزعيم المثالي والقدوة، وحامل وجدان جماعة بأكملها.


ككل أيلول، يعود الحديث عن تلك الثنائية في لبنان. ثنائية الحياة والموت، ثنائية البطل المرتفع على الأكتاف إلى قصر بعبدا والمغدور شهيداً، في مقابل منفذ عملية اغتيال رئيس جمهورية لبنان عام 1982. ثنائية بشير الجميّل وحبيب الشرتوني. واحد أغتيل، والآخر نفذ عملية اغتياله.

وإن كان القوميون السوريون لا يجدون أي إنجاز يحتفلون به طوال العام سوى اغتيال بشير الجميّل، لا يزال أنصار هذا الأخير كُثر، ويرون في بشير الزعيم المثالي والقدوة، وحامل وجدان جماعة بأكملها. غير أنّ للقوميين «بطلاً» آخر أكثر قِدماً من الشرتوني، حتى وإن تماهى معه في نوع الجريمة؛ وهو منفذ عملية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رياض الصلح.

مع تزايد الخلافات بين الصلح ورئيس الجمهورية بشارة الخوري، أصبح الأول أكثر حرية وحركة في الميدان السياسي، خاصة وأنّه مدّ شبكة علاقات متينة مع الزعماء العرب، ومنهم الملك الأردني عبد الله الذي خصه بدعوة إلى عمّان عام 1951.

قبلها بأشهر، حاول قومي سوري يُدعى توفيق حمدان (23 سنة) اغتيال الصلح في بيروت، وذلك انتقاماً لإعدام زعيم الحزب أنطون سعاده عام 1949. لم تصِب رصاصات حمدان الصلح، بل أصابت طفلين توفيا بالخطأ، فيما كان الكره للصلح يتزايد داخل بيئة الحزب السوري القومي الاجتماعي، بعدما حمّلوه مسؤولية إعدام سعاده، وقرروا الثأر منه.

في الخفاء، كان ميشال الديك، وهو قومي سوري تعود أصول عائلته إلى قرية بشمزين اللبنانية، قد انتقل إلى طرابلس، ومن ثم إلى طرطوس، وحط رحاله أخيراً في مدينة درعا جنوب سوريا. تذكر الكتب أنّ الرجل لم يكن يقوى على النوم قبل الثأر لاغتيال سعاده، كما أنّه أقسم على الكف عن أي نشاط حزبي قبل إتمام المهمة. وهناك، في درعا، افتتح مقهى وتعرف إلى محمد صلاح، الأردني الجنسية والعامل في السلك العسكري في بلاده، وعلى سبيرو وديع حداد الذي يعمل كسائق بين الحدود السورية والأردنية.

شكّل هؤلاء زمرة أقسمت على قتل الصلح انتقاماً لموت سعاده. لا قانون ولا رأفة ولا قيم ولا دين تحكّمت بأعمالهم، بل رغبة جامحة في ممارسة الجريمة ولو كلف الأمر حياتهم. وككل العقائد الفاشية الرائجة في الزمن الماضي، كان فكر القومية السورية محط استغراب من حيث دعوته وغايته وعنفه وأصوله الفكرية. غرّ الفكر بعض الجماعات في سوريا ولبنان، فلم يكن يعلم كثيرون، في حينها، أن فِهم سعاده للتاريخ وتفسيره مثلاً كان منحولاً من كتابات المستشرق الفرنسي إرنست رينان، أو أنّ نظرته العنصرية إلى اليهود كانت مأخوذة من كتابات النازي ألفرد روزنبرغ، أو أنّ تنظيم الحزب القومي، من حيث شدته وهرميته ومركزيته، كان مأخوذاً، في الشكل والمضمون، من الأحزاب الفاشية في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا.

في طريقه إلى المطار لمغادرة الأردن، ظهرت سيارة مسرعة وبداخلها ثلاثة ركاب: الديك، صلاح، وحداد. تجاوزوا سيارة المرافقة الأمنية وأطلقوا النار على سيارة الصلح، فأردوه شهيداً. تبع ذلك مطاردة بين القتلة والأمن الأردني، فاضطر القوميون الثلاثة الترجل من السيارة. هذا وأصيب الديك في فخذه، فطلب من رفيقه، صلاح، أن يقتله لكي لا يقع في قبضة الأمن، وهكذا كان. قتَل صلاح رفيقه بطلقة في الرأس وأكمل مع حداد محاولة الهروب.

بعد دقائق من الجري، تأخر صلاح في اللحاق برفيقه الآخر، فحاول الانتحار بإطلاق النار على نفسه، لكنه لم يمت، بل اعتُقل ونقل إلى المستشفى الإيطالي في الأردن. لكن محمد صلاح، الذي خضع لعملية جراحية بهدف إنقاذ حياته، قد عاد وأقدم على الانتحار داخل المستشفى. أما سبيرو حداد، فهرب إلى مدينة الزرقاء الأردنية، ومنها إلى سوريا، ثم إلى البرازيل حيث توفي هناك عام 1994.

على الرغم من أنّ بعض الكتب تذكر أنّ رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي جورج عبدالمسيح هو من دفع نحو عملية الاغتيال، إلا أنّ كتباً أخرى غالباً ما تؤكد أنّ الديك أخذ على عاتقه تنفيذ المخطط لوحده بمعزل عن كل المسؤولين، وقد تواعد مع رفيقيه على قتل أنفسهم إن تعذر الفرار «وتقديم الدماء التي في عروقهما التي هي ملك للأمة»، كما كان يقول سعاده نفسه.

تتشابه قصة اغتيال الصلح مع قصة اغتيال الجميّل، خاصة إذا قورنت من زاوية غاية المجرمين. كل الهدف كان قتل شخص يمثل فكرة لأناس، لا أكثر. تأليه العنف لأجل العنف، والسعي لتحقيق غاية سياسية عبر الثأر واستخدام أدوات القتل. إن لم يكن هذا هو تعريف الإرهاب السياسي بشكل عميق، فما هو الإرهاب السياسي تحديداً؟

أكمل سبيرو حداد حياته وحيداً، هارباً مختبئاً في البرازيل، تماماً كما يمضي حبيب الشرتوني حياته متخفياً في مكان ما في هذا العالم. أما نصب بشير والصلح وصورهما فتعلو كل ساحة في بيروت ولبنان. والأهم هو ما تراه الناس أو عمومها، حيث لا يزال الصلح شهيداً تماماً كبشير، فيما لا يزال هذا الأخير حياً في قلوب محبيه والأجيال الصاعدة، حتى وإن مات ودفن لمئة مرة تحت التراب. أما تمثال الصلح الحديدي المشرف على مبنى مجلس الوزراء وسط مدينة بيروت، فيبقى شاهداً على أنّ الإرهاب السياسي قد يقتل الشخص لكنه لا يقتل ما يمثله البتة.