حلم البشير… وكوابيسه

حلم البشير… وكوابيسه

  • ١٧ أيلول ٢٠٢٤
  • جورج طوق

كلٌّ يجب احترامه كفردٍ، يقول ألبرت أينشتاين، فيما يجب عدم تأليه أحد.


بكلّ المعايير، وعلى حدٍّ سواء، كانت جريمة اغتيال بشير الجميّل صادمةً للمُوالي والمناهض. فهو كان، للأخير، كابوسًا، حتّى مقتل الرجل لم يوقظه منه. وللأوّل كان حلمًا لم تُعرف ماهيّته بعد إثنين وأربعين عام. لا مآخذ لمحبّيه عليه، ولا محامد له عند مبغضيه. للرجل، مثل أيّ زعيمٍ في العالم، ما له، وعليه، أيضًا، ما عليه. ليس بشير قدّيسًا، دون أدنى شكّ، ولا هو، بقدر اليقين نفسه، أكثر شيطانيّة من نظرائه في نادي النبالة السوداء للحكم في لبنان.

«ليل الحقد وقيد المحرّمات»
نيّفٌ وعقودٌ أربعة لم تستطِع إجلاء ليل الحقد عنه ولا كسر قيد المحرّمات من حوله. فمن يكرهونه، لخيانته وامتطائه صهوة دبّابة العدوّ، يؤلّهون، اليوم، خونة وعملاء أهدوا بحر لبنان وغازه إلى العدوّ ويقاتلون لغير حساب الوطن. ومن يؤلّهونه، لهيبته وقوّته وسحقه الفساد في أيّام، يهيمون، اليوم، خلف فاسدين وضعفاء بلا هيبة. دعاةٌ للعلمانيّة والقوميّة العربيّة يعادون، خلف عمامة، غالبيّة قوميّات العرب، ودعاةٌ للوطنيّة اللبنانيّة لم يجدوا، حتّى الساعة، ما يكفي من أوجه الشبه بينهم وبين غالبيّة مواطنيهم. لم يفلح أحدٌ منهم في إفهامنا، ببساطةٍ واختصار، ما هو ذاك الكابوس الأسود، أو ما هو ذلك الحلم الورديّ. وفي السياق هذا، يقول أينشتاين، أيضًا: إن لم تستطِع شرح نظريتك لطفلٍ في السادسة من العمر، فأنت لست ملمًّا بها.

«خارج التأليه»
التأليه وليد العاطفة، والعاطفة حجاب المنطق. بعد مرور كلّ هذا الزمن على الجريمة، بات نزع حجاب العواطف عن حقبة بشير مُلحًّا، لا سيّما عند محبّيه. فالمنطق وبرودة العقل يقسمان مسيرة الرجل إلى مواجهتين: إحداهما مع الغرباء والأخرى مع الأقرباء. والإثنتان مطبوعتان بالأحمر والأسود. الأولى في وجه استباحة منظّمة التحرير لسيادة لبنان وسطوة وصاية البعث السوريّ، والثانية في وجه كلّ منافسٍ محتمل في ميدان الحكم الداخليّ. لم تكن الثانية، في الفظائع والارتكابات، أرحم من الأولى. وطنيًّا وحتّى للناظر من بعيد، تبقى مقاومة الغرباء أكثر إقناعًا من أيّ اشتباكاتٍ أهليّة. للرجل مساهمةٌ ما، لا تقبل الإنكار، في تعقيد تطبيق مخطّطات الدول، وربّما في تعديلها نحو ملائمة أفضل للبنان، لكنّ صرف فعل المقاومة، في حساب الوصول إلى الحكم، يُسقط عنه هالته. القدسية لا تقبل البازارات، والحزب الأصفر، بعد العام 2006، خير برهان. فما بين البشير اليافع والمقاوم للبنادق الغريبة، وبين البشير التوّاق إلى كرسي الرئاسة، شتّان.

خطايا البشير
يروي أحد الكتائبيين الأوائل تهيّب كلّ كبار حزبه ومستشاريه اقتراح بشير لملاقاة قادة العدوّ. يصيب الثمانينيّ، إلى حدٍّ بعيد، في تقليد نبرة صوت «بيار الجد»، كما يسمّيه، عندما قال لابنه بالفرنسيّة "Non, c’est trés dangereux". بشير لم يكن يستمع لأحد. تلك هي إحدى كُبرى خطاياه. وفي ذلك خروجٌ فادحٌ عن السياق التاريخيّ للسلوك المارونيّ. هناك، بلا رُتبٍ رسميّة ولا بنى حزبيّة معقّدة، كان يفكّر من يفكّر ويكتب من يكتب ويطبّق من يطبّق ويقاوم من يقاوم. هناك من اتّخذوا، يومًا، قرارًا بطبع حروف عربيّة، في مغارةٍ نُسكيّة، في عزّ نُطق السريانيّة، وصاغوا، من قلب التوتّرات والخلافات، تفاهماتٍ وحوارات مع محيطهم القريب والبعيد. هناك من وقفوا وتكاتفوا وانفتحوا وصمدوا في وجه عواصف لا تُحصى ولا تُعدّ. لم يكن الفكر مُحتكرًا ولا القرار ولا القوّة. أراد بشير احتكار كلّ شيء: القوّة والدراية والفكر والقرار والقيادة والحكم. توليفةٌ تُلقي ، في أحسن الأحوال، صعوبةً مفرطة على صواب ونجاة حاملها. تبقى خطيئة بشير الأكبر هي مصرعه. فالرجل حيّد، بالقضم أو السكّين، كلّ منافسٍ محتمل على الساحة المارونيّة في المواجهة الثانية من مسيرته، ثمّ قُتل. لم ينج منه إلّا قلّة من رفاقه، وهؤلاء هم اليوم زعماء الموارنة. هؤلاء هم، أيضًا، نكبة الموارنة. تخيّل أبًا أبعد أمّ أولاده وجدّيهم وأعمامهم وأخوالهم ليبقى ربّ العائلة الأوحد، ثم رحل. أيّ مصيرٍ للعائلة تلك؟ قد يقول البعض أنّ المارونيّة السياسيّة ماتت في انفجار الصيفي، مع بشير، في الثمانينيّات. الحقيقة هي أنّها تلقّت رصاصات خطيرة مع خروجه الفادح عن السيّاق التاريخيّ في صعوده الناريّ والسريع نحو قمّة الهرم المارونيّ، وتلقّت رصاصة الرحمة على أيدي الناجين من مدرسته والقابعين في قصور الحكم اليوم.