جمهورية الخوف.. ورُزم المال المتنقلة

جمهورية الخوف.. ورُزم المال المتنقلة

  • ٢٢ تشرين الأول ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

زيارة أحمد فقيه إلى عائلات مقاتلي "حزب الله" في أيطو الزغرتاوية كانت خبراً سيئاً له ولحوالي 23 جنوبياً آخر. أتى المسؤول المالي في الحزب محملاً بحقائب المال "ليقف على خاطرها"، فكانت له طائرة إسرائيلية في المرصاد، فودّع الدنيا ومن معه، وباتوا في مكان آخر.

زيارة أحمد فقيه إلى عائلات مقاتلي "حزب الله" في أيطو الزغرتاوية كانت خبراً سيئاً له ولحوالي 23 جنوبياً آخر. أتى المسؤول المالي في الحزب محملاً بحقائب المال "ليقف على خاطرها"، فكانت له طائرة إسرائيلية في المرصاد، فودّع الدنيا ومن معه، وباتوا في مكان آخر.

مع وفاة أغلب قياديي "حزب الله" وخسارة مئات مخازنه العسكرية، لم يبقَ للحزب من مصدر قوة إلا جمهوره. هو الركن الأساسي الذي انطلق منه والذي يمكن أن يبنيه من جديد بعد نهاية الحرب. عاد الحزب إلى الركن الأول، ويحاول الآن الاهتمام ببيئته قدر الإمكان، عبر تخفيف مشقة النزوح عنها، إمدادها بلوازم الحياة، وإبقاء مشاعر فائض القوة فيها. 

وكما كان الحال في أيطو، كذلك كان قبل يوم في دير بلا-المتاولة في جرود البترون، وقبلها في المعيصرة الكسروانية. بناء "حزب الله" لدولة ضمن الدولة ما ظهر كأنه متين وواسع وكافٍ لخوض الحرب، بل ظهر جلياً أنه بحاجة إلى "دول" أخرى في الداخل اللبناني. هو بحاجة إلى مستشفيات بقية الطوائف، مجالها الجغرافي والسكني، كما طواقم الإسعافات المختلفة والجمعيات المتنوعة. أدخل لبنان كله في الحرب إذ لم يعد هناك، جدياً، من منطقة آمنة حقيقة، ثم دفع ببعض مسؤوليه ومقاتليه للاهتمام ببيئته النازحة إلى مناطق أخرى.

تحوّل بعض مسؤولي الحزب إلى أشبه بالباعة الجوالين. وكما يتجوّل باعة الخردة والسمك والكعك كل صباح متنقلين بين القرى الهانئة، كذلك يتجوّل مسؤولو الحزب برزمهم المالية وكلماتهم المطمئنة وأخبارهم عن حال الجبهة الجنوبية وبطولات الصمود والتصدي ومجازر العدوان. غاية وجود هؤلاء هي الإبقاء على جمهور الحزب مؤيداً له، لكنه يتخذ شكلاً من أشكال الدعم المادي والمعنوي. يعرف "حزب الله"، أو من تبقى منه، أن خسارة الركن الأساسي؛ الجمهور، تعني النهاية المحتومة، فخسارة المقاتلين والأسلحة والذخائر يمكن أن تُعوّض، لكن خسارة التأييد الشعبي غير قابلة للتعويض.

أليس الأجدى بمسؤولي الحزب التوجه جنوباً والمشاركة في قتال الجيش الإسرائيلي؟ أليس هذا مناهم الحقيقي في السقوط شهداء على الجبهة وفي أيديهم رشاش وشارة نصر؟ لقد تحوّلوا بدلاً من ذلك إلى قنابل موقوتة يزورون النازحين وفي يدهم أموال، في أفواههم تطمين، ويلحقهم ربما في سقف منزل المستأجرين صاروخ إسرائيلي.

حضور هؤلاء القادة والمسؤولين وبعض المقاتلين لا يشكل خطراً على النازحين فقط، بل على السكان العاديين كذلك، أبناء القرى والأقضية والمدن التي لا ناقة لها ولا جمل في الحرب الدائرة بين الحزب وإسرائيل. هؤلاء الناس العاديون لم يؤيدوا الحرب أصلاً ولا يكترثون جدياً لـ"إسناد غزة" ولا لمغامرات الحزب خارج الحدود، بل جلّ ما يريدونه هو العيش بسلام. هؤلاء دفعوا وسيدفعون ثمن النزوح اقتصادياً وتنموياً من جهة، كما في أملاكهم وأرزاقهم وحياتهم من جهة أخرى، طالما قادة الحزب لا يزالون يتجوّلون متخفين بينهم.

هذا الواقع لن يستمر إلى ما لا نهاية، إذ إن الأيام القليلة الماضية أظهرت تصاعد مشاعر النقمة من هذا الواقع. في كفردلاقوس الزغرتاوية ساد هرج ومرج ليلة الغارة على أيطو، حيث أُخرِج بعض النازحين من مبانٍ سكنية بعد انتشار معلومة عن زيارة مسؤول في الحزب إليهم. في البوار الكسروانية، رُفعت صورة على بوابات بعض الأبنية شبه الفارغة كُتب عليها "إذا كنتم من عصابة حزب الله الإيرانية، فلا تقرعوا الباب. لا مكان لكم بيننا". في قرية بعبدات المتنية، اضطرت البلدية إلى إصدار بيان لتهدئة روع الناس بأن حسن مقلد، الخبير المالي ذو الارتباطات مع الحزب، قد غادر نطاق البلدة، وكذلك فعلت جارتها بكفيا والدكوانة والربوة التي أصدرت بيانات منفصلة تؤكد خلوها من مسؤولي الحزب. في دير القمر الشوفية، تم طرد رئيس حزب "البعث العربي الاشتراكي" بنسخته اللبنانية، علي حجازي، من القرية خوفاً على الأمن فيها. أما في شكا البترونية، فمَنعت مسؤولة في مدرستها الرسمية أي زيارة من الخارج للنازحين الساكنين فيها، خوفاً من أن يكون بينهم مسؤول أو قيادي أو مقاتل من "حزب الله". 

هذا الذعر الاجتماعي المتصاعد مبرر. لا يبتغي أي أحد أن يموت وهو لا شأن له بكل ما جنته أيادي "حزب الله". الناس تريد أن تعيش، ولا تريد أن تضع أرواحها في خطر. النازح خائف، المستأجر خائف، والمؤجِّر كذلك. هذه جمهورية الخوف لا جمهورية المقاومة ولا جمهورية القانون أو الحرية أو الإبداع كما شاع عنها يوماً.

قد تكون شوارع القرى والبلدات هادئة الآن، لكن في كل زاوية وكل بيت، هناك قلوب مضطربة، عيون ترقب ما سيأتي، وأيادي ترتجف خشية غارة مفاجئة. كل رجل وامرأة في هذه المناطق ينتظر قدراً مجهولاً، محاصراً بين حضور النازح الثقيل والمستقبل المظلم. لكن هذه الحقيقة لا يمكن إخفاؤها إلى الأبد. "حزب الله" يدرك جيداً أن تحركاته لم تعد محببة للجميع، وأن الزخم الشعبي الذي كان يتمتع به يوماً قد بدأ يتلاشى، وما يُفقد ببطء، يصعب استعادته. ومع ذلك، الحزب ماضٍ في محاولاته، مدركاً أن الزمن لن يكون في صالحه إن استمر تراجعه العسكري على ما هو عليه. 

وفيما هو يحاول الحفاظ على ما تبقى من نفوذه، تدور رحى صراعات أخرى. في كل قرية، تظهر وجوه جديدة، وقوى محلية تبدأ بالتحرك، تتساءل عن مصيرها، عن حقها في تقرير مستقبلها، بعيداً عن الأجندات التي تُفرض عليها من خارج أسوارها. قد لا تكون هذه الحركات علنية بعد، لكن تحت الرماد هناك نار تغلي، تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر.