نواف سلام.. «مع الحلم ضد الوهم»
نواف سلام.. «مع الحلم ضد الوهم»
نواف سلام، وأي مسؤول آخر في موقع القرار، أمام اختبار تاريخي: إما أن يكون جزءًا إضافياً من مسار الإنهيار والتعطيل، وإما أن يختار المجازفة لكسر الحلقة المفرغة.
يمكن لأي لبناني أن يحلم قدر ما يشاء. ليس الحلم عيباً، بل هو واجب ومطلوب. أن تحلم ليس رذيلة ولا خطيئة، بل فضيلة في زمن التشاؤم والأزمات.
يحلم اللبنانيون بواقع أفضل، أوعلى الأقل، بتشكيل حكومة جيدة وعهد منتج. هذا من أبسط الأحلام، لكنه حلم اصطدم باكراً بطموحات الأحزاب والطوائف وشروطها، كما بمطالب الدول الأجنبية وتدخلاتها.
لم يتعثر رئيس الحكومة المكلّف نواف سلام بعد، لكن التأليف عاد وخضع لشروط النظام السياسي ولعبته المجحفة. الميثاقية، الثلث الضامن، الوزير الملك، ووحدة المعايير، وغيرها من التعابير التقليدية لا تزال تحكم اللعبة، بينما تبقى الكفاءة والخبرة والمصلحة العامة في خلفية المشهد، دون أن تتمكن من تصدّره حتى الآن.
نواف سلام رجل جيّد، يحمل شيئاً جديداً إلى الحياة السياسية اللبنانية، لكنه حتى الآن لم يفرض إيقاعه، ولم يكن له التأثير الكافي على قواعد اللعبة. لا جديد تحت شمس لبنان، فالقديم يستمر في مساره، وشروط المشاركة في الحكومة لا تزال هي نفسها: هذا يريد أن تتمثّل منطقته بوزير «دسم»، وذاك يطالب بخمسة وزراء، كأنّ الله خلقه وكسر القالب، وغيرهم يريد حصة وازنة ووزارة سيادية تعيد له هيبته أو تجعله شريكاً أساسياً في المشهد السياسي.
ما زالت «تقليعة» العهد الجديد ممكنة، والزخم الشعبي قابل للاستعادة، لكن بعض الحماس خفّ. لا بدّ من الإقرار بهذا الواقع والسعي لإصلاحه، لأنّ إستمرار هذا النهج سيؤدي إلى مزيد من التعطيل والإنهيار.
لا يمكن الإنكار أنّ النظام السياسي اللبناني وآلياته لا تزال قوية ولها القدرة على تعطيل الإصلاحات وعرقلة الحلول الجذرية. فبحسب الدستور والقوانين والأعراف، يمكن أن يستغرق تشكيل الحكومة أشهراً طويلة، إذ لا يوجد أي حدّ زمني يلزم الرئيس المكلف أو رئيس الجمهورية بإنهاء عملية التأليف في وقت محدد.
يمكن أيضاً للأحزاب والكتل النيابية المماطلة قدر ما تشاء، دون أي قيود تمنعها من ذلك. بعض الأحزاب، كـ«الثنائي الشيعي»، يرفع سقف المطالب عالياً ويضغط لانتزاع وزارات معينة، بينما يطالب «الثنائي المسيحي» بمعايير موحدة في التوزيع، بحيث يُعامَل كما تُعامل باقي الكتل النيابية.
لكل حزب وطائفة وكتلة نيابية مطالبها، لكن تحقيق جميع هذه المطالب يعني جعل دور نواف سلام هامشياً في المستقبل. وهنا تبرز معضلة أساسية: كيف يمكن له أن يحكم بفعالية إذا خضع لشروط جميع الأحزاب؟ وفي المقابل، كيف يمكنه أن يحكم إن عادى جزءًا كبيراً منها؟ الخياران أحلاهما مرّ، فالجميع يدرك أنّ الشرعية السياسية والشعبية لأي حكومة تؤمّنها الأحزاب وقواعدها الجماهيرية العريضة، وفي الوقت نفسه، فإنّ أي حكومة ناجحة ومنتجة تتطلب تقليص نفوذ الأحزاب داخل السلطة التنفيذية. هذه هي معضلة سلام الخاصة، ويبقى حلّها رهين التطورات السياسية، كما شجاعته في تقديم حلول غير مألوفة.
لكن، أيُعقل أن يكون مستقبل لبنان ومصير ستة ملايين لبناني رهينة الموافقة أو الرفض على إسم ياسين جابر كوزير للمالية؟ أيُعقل أن يكون حلم اللبنانيين مرهوناً بشخص واحد أو بحركة سياسية واحدة تريد الإستيلاء على المزيد من المال العام والإستمرار بممارسة شتى أنواع الفساد.
إنّ معاناة أمٍّ تنتظر جثة إبنها الذي استُشهد في قرية محتلة من إسرائيل في جنوب لبنان، دين في رقبة ياسين جابر و«أمل» وكل من يشارك في عملية التعطيل. وكذلك هو الحال مع كل من يحلم بمستقبل مشرق، بواقع أفضل، وحياة طبيعية في هذا البلد.
كتب الأستاذ أنطوان نجم ذات مرة كتاباً بعنوان: «مع الحلم ضد الوهم». لا أحد من اللبنانيين واهم بأنّ بلاده ستتحوّل إلى جنّة، أو بأنّ العدل المطلق سيسود، أو بأنّ المحاسبة الشاملة قادمة، أو حتى بأنّ الدين العام سيختفي. لا أحد يتوهم بذلك، لكن من حقّ كل لبناني أن يحلم بشيء من الإيجابية في حياته، ولو كان حلماً بسيطاً.
إنّ مسؤولية نواف سلام، بالدرجة الأولى، هي الحفاظ على بصيص الأمل، لا أكثر. فقتل الأمل وأحلام اللبنانيين المتواضعة جريمة لا تُغتفر. وها هو لبنان المعلّق بين الممكن والمستحيل، يعيش فصل جديد من الأزمات والتعطيل والمماطلة، وفي كل مرة تلوح بارقة أمل، تأتي العوائق لتعيد اللبنانيين إلى نقطة الصفر، لكأنّ البلد محكوم بالبقاء في دوامة التعطيل التي لا تنتهي.
لكن رغم ذلك، لا يزال هناك من يحلم. لا يزال هناك من يؤمن بأنّ في هذا البلد قدرة على النهوض، ولو من تحت الركام. هؤلاء الذين يصرّون على البقاء، رغم الهجرة الجماعية، ورغم إنسداد الأفق، هم من يمنحون لبنان فرصة جديدة كل يوم.
قد يُقال إنّ الإصلاح مستحيل، وإنّ النظام السياسي متجذّر بفساده، وإنّ الأحزاب لن تتنازل عن امتيازاتها، وكل هذا صحيح. لكن في المقابل، يُقال أيضاً إنّ الشعب اللبناني مقدام ونشط وحيوي ومبدع.. وإنّ بعض الأحلام لا شك تتحقق.
نواف سلام، وأي مسؤول آخر في موقع القرار، أمام اختبار تاريخي: إما أن يكون جزءًا إضافياً من مسار الإنهيار والتعطيل، وإما أن يختار المجازفة لكسر الحلقة المفرغة. القرار بيده، لكنه يدرك جيداً أنّ التغيير في لبنان لا يُصنع فقط داخل الغرف المغلقة والمفاوضات السرية، بل يحتاج إلى إرادة شعبية حقيقية أيضاً، وبعض الشرعية السياسية. أما اللبنانيون، فليس أمامهم سوى خيار الصمود، ليس لأنّهم يحبّون المعاناة، بل لأنّ لا بديل عن ذلك.
الكرة في ملعب نواف سلام، في ملعب العهد الجديد، في ملعب كل من لا يزال يملك ذرة مسؤولية تجاه هذا الوطن. فإما أن يكونوا على قدر الحلم، أو أن يسقطوا في فخ الوهم والتعطيل والمماطلة، كما سقط كثيرون من قبلهم.