ماذا لو استشهد الجنرال في 13 تشرين؟
ماذا لو استشهد الجنرال في 13 تشرين؟
تاريخ الموارنة، بل تاريخ الجماعة المسيحية عموماً في لبنان، كُتب بدماء الذين خسروا ولم يستسلموا. في هذا الشرق التعيس، كانت البطولة دائماً تتوّج بالموت لا بالسلطة، بالشهادة لا بالعظمة.
في صباح الثالث عشر من تشرين الأول 1990، كانت المدافع تكتب الفصل الأخير من حرب خاسرة، فيما كان الجنرال ميشال عون يتهيأ لعبور آخر نحو السفارة الفرنسية في الحازمية. هناك، بين قصر يغرق بالدخان وسفارة تفتح أبوابها لزائر مضطرب، إنقسم مصير الرجل إلى إحتمالين: أن يُقتل في القصر فيصبح رمزاً، أو أن ينجو منه فيصبح عبئاً. إختار الرجل الخيار الثاني، ومنذ ذلك اليوم لم تكفِ المخيّلة اللبنانية عن طرح سؤال ظلّ معلقاً في الهواء: ماذا لو اختار الخيار الأول؟ ماذا لو استشهد الجنرال؟
لو سقط عون في قصر بعبدا صباح 13 تشرين، لربما استيقظت الجماعة المسيحية على مأساة موحِّدة لا على إنقسام طويل. كان يمكن للرجل أن يتحوّل إلى أسطورة، إلى«شهيد الجمهورية الضائعة»، تماماً كما تحوّل بشير الجميّل من قائد متمرّد إلى أيقونة معلّقة في الصالونات والقلوب. فالمسيحيون في لبنان، على اختلاف إنتماءاتهم، لم يكونوا يوماً منجذبين إلى «المنتصرين»، بل إلى المظلومين الذين يموتون في لحظة تراجيديا. وحدها الشهادة تُطهِّر الخطأ، وتغسل الرهان الخاطئ، وتحوّل الهزيمة إلى قضية.
تاريخ الموارنة، بل تاريخ الجماعة المسيحية عموماً في لبنان، كُتب بدماء الذين خسروا ولم يستسلموا. من يوسف بك كرم الذي نُفي ومات في المنفى، إلى بشير الجميّل الذي سقط قبل أن يلمس كرسي الرئاسة، مروراً بآلاف الرهبان الذين ذبحوا في كنائسهم في هذا الشرق التعيس، كانت البطولة دائماً تتوّج بالموت لا بالسلطة، بالشهادة لا بالعظمة. وهناك، على صفحات التاريخ البعيد، يسطع إسم الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي أسّس دولة ومارس سياسة إستقلالية شجاعة، لكنه قُتل في اسطنبول بعيداً عن وطنه، بعد أن نُفي وطُعن في قلب مشروعه. هؤلاء الأبطال، في وجدان المسيحيين، لا يُقاسون بما حققوه من سلطات، بل بما تحملوه من صعاب، وكيف أضاؤوا الطريق لمن جاء بعدهم بالشهادة، لا بالبقاء.
في هذا السياق، لو مات ميشال عون في بعبدا، لربما صعد إلى مصافّ هؤلاء الذين ماتوا وهم يرفعون راية أكبر منهم، ولكان إسمه إرتبط بـ«القضية» لا بحزب أو تيار، وبـ«الشهادة» لا بالوراثة السياسية وحبّ السلطة. كان يمكن أن يصبح إمتداداً لتلك السلسلة التي تبدأ بفخر الدين، وتمتد إلى بشير الجميّل، لتشمل كل من اختار الموت لا البقاء.
لكن عون لم يمُت. نجا ليعيش في فرنسا، ثم عاد بعد خمسة عشر عاماً محمولاً على أمواج ذاكرة متعبة وثأر قديم. عاد لا كشاهد على المأساة اللبنانية، بل كفاعل فيها. ومع عودته، تحوّل 13 تشرين من ذكرى بطولة إلى مناسبة حزبية، من مأساة جماعية إلى طقس من التنظيم والرايات والخطابات التي قبض عليها صهره، جبران باسيل. حينها تحوّل السؤال المؤلم إلى مفارقة واضحة. الرجل الذي كان يمكن أن يُصبح رمزاً للشهادة، صار رمزاً للبقاء. الرجل الذي كان يمكن أن يُلهم المظلومين، صار نفسه عنواناً لمظلومية متواصلة امتدت منذ إتفاق «مار مخايل» وحتى إنهيار الإقتصاد وصولاً إلى نهاية ولايته الرئاسية.
في الوجدان المسيحي، للشهادة سحر خاص، حتى المسيح - الإنسان بذاته كان شهيداً. فالشهادة ليست موتاً فقط، بل نقل المأساة إلى مرتبة الخلاص، ذلك لأنّ الشهيد لا يُحاسب، بل يُقدَّس. لذلك أحب الناس الجميّل رغم كل ما فعل، وكرهوا كثيرين عاشوا أكثر مما ينبغي. فالموت المبكر يحفظ الصورة نقية، والمأساة تخلّد من لم يمهله الزمن وقتاً ليخطئ أكثر. في المقابل، العيش الطويل يكشف الضعف، والسلطة تجرح الصورة وأحياناً تخدش الهيبة. من هنا، فإنّ عون، الذي عاش طويلاً بما يكفي ليرى حلفاء الأمس خصوماً، وخصوم الأمس حلفاء، خسر ما كان يمكن أن يمنحه الموت من قداسة.
كان يمكن أن يكون «شهيد الدولة» التي حلم بها ولم تُولد أو أن يكون «شهيد السيادة» أو «الشرعية». كان يمكن أن يُصبح في ضمير الجماعة إمتداداً لتلك السلسلة التي تبدأ برموز دينية وتنتهي بأبطال مدنيين، وتجمعهم فكرة واحدة: أنّ الكرامة تستحق الموت من أجلها. لكن الحياة التي منحته فرصة النجاة، منحته أيضاً عبء الزمن، زمن كشف كل شيء، من وعود التحرير إلى واقع التحالفات إلى إنهيار الدولة في عهده. وهكذا، بدل أن يظلّ صورة محفورة في وجدان المقاتلين والجمهور، صار وجهاً على شاشة، أو مجرد خطيب في قاعة لا تضم إلا المئات.
ربما لهذا السبب، يشعر كثيرون في كل ذكرى لـ13 تشرين أنّ المأساة لم تكتمل. لم تنتهِ بالبطولة ولا بالتوبة، بل علِقت بينهما. كانت ناقصة، بلا شهيد كبير يختصر الحكاية، وبلا خلاص يُعطي النضال والموت معنى. ولو أنّ الجنرال استُشهد في ذلك اليوم، لكان التاريخ روى قصة أخرى. قصة قائد مات في القصر لا زعيم عاش في القصر الجمهوري.
لكن القدر اختار أن تبقى الحكاية معلّقة بين الحياة والموت، بين المأساة والملهاة، بين الرمز والرجل. ولذلك، سيظلّ 13 تشرين بالنسبة إلى اللبنانيين، لا سيما المسيحيين منهم، ليس يوم سقوط فقط، بل يوماً لما لم يحدث، يوماً لشهيد لم يمت، ولأسطورة لم تُولد