السانِد والمسنود وفرحة اليهود

السانِد والمسنود وفرحة اليهود

  • ١٠ تشرين الأول ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

«الساند» مثقل بالجراح، و «المسنود» خرج من المعركة مقيّداً، فيما الإسرائيلي يقطف ثمار حرب دامت عامين وخرج منها بمظهر المنتصر والضحية في آنٍ.

منذ اللحظة الأولى لاندلاع ما سمّاه حزب الله «حرب الإسناد»، بدا المشهد وكأنّه إمتداد طبيعي لما يجري في غزة. فالأمين العام السابق خرج في خطاب ناريّ يقول فيه إنّ «لبنان لن يقف متفرجاً على المجازر في فلسطين»، وإنّ «الواجب الجهادي والإنساني يحتّم علينا الإسناد والدعم». كلمات دوّت في الجنوب كما في الضاحية الجنوبية لبيروت، فاستُحضرت مشاهد «وحدة الجبهات» و«تلاحم المقاومين» من البحر إلى النهر الفولكلورية، على أمل أن تكون هذه المرة مختلفة، وأنّ «الإسناد» سيغيّر وجه الحرب.

لكن بعد 734 يوماً من القتال المتواصل، وبعد آلاف الغارات التي مسحت أحياء بأكملها في غزة، ودمرت بلدات حدودية لبنانية حتى آخر منزل فيها، تبدو النتيجة مختلفة تماماً عن الصورة التي رُسمت في البداية.

حركة حماس، التي وُصفت بأنّها «المسنودة» في هذه المعادلة، وافقت على إتفاق شامل لإنهاء الحرب. إتفاق حمل توقيع الأميركيين والقطريين والمصريين، وبصمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي استغل اللحظة ليقدّم نفسه مجدداً كـ«صانع سلام» بعد سنوات من العزلة السياسية.

الإتفاق، بحسب النصوص المعلنة، يقضي بإنسحاب الإحتلال الإسرائيلي من غزة، وتبادل الأسرى، وفتح المعابر، وبدء ورشة إعادة إعمار تحت إشراف دولي. لكن خلف البنود، يختبئ المعنى الأعمق: حماس قبلت بوقف الحرب وفق الشروط الإسرائيلية تقريباً، بعدما تآكلت قدراتها العسكرية، وأنهكتها المعارك الطويلة، وفقدت السيطرة الفعلية على معظم القطاع.

هنا، تصبح المفارقة مؤلمة. فبينما كانت «المساندة» تُقدَّم في لبنان كمعركة الشرف والتكافل والمصير الواحد، إنتهى «المسنود» إلى طاولة تفاوض يقودها الأميركي، فيما بقي «الساند» وحده في الميدان، يطلق النار كلامياّ على عدو أنهى حربه الكبرى مع الفلسطيني وبدأ حرباً باردة في الدبلوماسية.

إسرائيل، من جهتها، خرجت من هذه الجولة بإنجاز مركّب يصعب تجاهله. فمن الناحية العسكرية، نجحت في تدمير القسم الأكبر من بنية حماس التنظيمية والعسكرية، واغتالت العشرات من قيادات الصف الأول، وفرضت واقعاً جديداً في غزة يحول دون إعادة بناء القوة الصاروخية في المدى المنظور.

ومن الناحية السياسية، إستطاعت أن تُبرهن للغرب أنّها «تواجه الإرهاب وتحافظ على إستقرار المنطقة»، فحصدت غطاءً دولياً رغم حجم الدمار والضحايا. أما من الناحية النفسية والإعلامية، فقد نجحت في تصوير الاتفاق كـ«إنتصار سلام»، بينما يظهر خصومها كمن أُجبروا على توقيع وثيقة خضوع بعد حرب إستنزاف طويلة.

وفي المقابل، يقف حزب الله أمام مأزق سياسي ومعنوي معقد. لقد خاض حرباً كلّفته آلاف القتلى والجرحى، وأدت إلى تهجير عشرات الآلاف من الجنوبيين، وتكبيد لبنان خسائر بمليارات الدولارات في البنى التحتية والزراعة والتجارة. ومع ذلك، لم يحقّق الحزب أي تغيير فعلي في موازين القوى، لا في غزة ولا على الحدود. بل إنّ إسرائيل، عبر ترسانتها الجوية والإستخباراتية، نجحت في توجيه ضربات دقيقة لمواقع الحزب وقياداته، فيما ظلّ الرّد ضمن الحدود المحسوبة بدقة، خشية الإنزلاق إلى حرب شاملة يخشاها الحزب.

اليوم، ومع إعلان الإتفاق، يجد «الساند» نفسه أمام فراغ سياسي وعسكري قاتل. فـ«المسنود» إستسلم فعلياً لشروط التسوية، والشارع اللبناني يتساءل بصوت عالٍ: لمن أسندنا؟ ولأي غاية؟ هل كانت «حرب الإسناد» دفاعاً عن فلسطين، أم أنّها تحوّلت إلى مغامرة مكلفة أضيفت إلى سلسلة حروب عبثية بدأناها بشعارات مقدّسة وانتهينا منها بركام فوق الركام؟

إسرائيل، بطريقتها الباردة والفظة، لا تضيّع فرصة لتُظهر أنّها المنتصر الوحيد. في تل أبيب فرح يهودي عارم، حيث يُقدَّم الإتفاق على أنّه إغلاق ناجح لملف غزة، وبداية مرحلة جديدة عنوانها «ردع شامل من الشمال إلى الجنوب».

الجيش الإسرائيلي أعاد تموضعه بهدوء، يحتفظ بانتشاره في الجليل، ويواصل قصف مواقع محدودة في الجنوب اللبناني كلما شاء، في حين يعيش لبنان حالاً من الإنكشاف الأمني والسياسي، بلا أفق للحرب ولا أفق للسلام.

حتى في المشهد الدولي، إستطاعت إسرائيل تحويل جريمة الإبادة إلى مشهد سلام، واحتفلت وسائل إعلامها بعبارات مثل «عودة الهدوء إلى غزة»، وكأنّها لم تكن مَن دمّرها قبل أيام وأسابيع وأشهر.

أما ترامب، فابتسم أمام الكاميرات، معلناً أنّ «السلام هو الإنتصار الأكبر»، بينما تُفتح له من جديد أبواب أوسلو وجائزة نوبل… تماماً كما كتب في دفتر حملته الإنتخابية سابقاً.

وفي النهاية، عندما نضع كلّ ذلك في ميزان الوقائع، نرى مشهداً واضحاً: «الساند» مثقل بالجراح، و «المسنود» خرج من المعركة مقيّداً، فيما الإسرائيلي يقطف ثمار حرب دامت عامين وخرج منها بمظهر المنتصر والضحية في آنٍ.

وكما كتب أحد المعلقين الإسرائيليين بسخرية موجعة: «لقد قاتل حزب الله سنة كاملة ليُثبت أنّه مع حماس، فانتهى الأمر بأن أثبت أنّه لوحده». هكذا، تنتهي «حرب الإسناد» كما بدأت: بشعارات طنانة، وبخطابات عن النصر الإلهي، وبأرض محروقة..  وبالكثير من المستقبل القاتم.