قديس الإبادة.. إغناطيوس مالويان ووجه الشهداء المجهولين

قديس الإبادة.. إغناطيوس مالويان ووجه الشهداء المجهولين

  • ١٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
  • خاص بيروت تايم

تقديس الأسقف الأرمني إغناطيوس مالويان، لحظة مكثفة تتقاطع فيها أبعاد متعددة: لاهوتية، تاريخية، وسياسية. إنها قصة تُعيد إلى الواجهة واحدة من أكثر فصول القرن العشرين دموية وألماً: الإبادة الجماعية الأرمنية.


تتوّج الكنيسة الكاثوليكية في ١٩ تشرين الاول ٢٠٢٥ أسبوع الإرساليات العالمي تحت شعار « مبشرو الرجاء بين الشعوب» بإعلان قداسة ٧ طوباويين قي قداس أقيم في ساحة مار بطرس في روما. من بينهم الأسقف الأرمني إغناطيوس مالويان.حيث دعا البابا لاوون الرابع عشر في رسالة صادرة  في اليوم نفسه  أبناء الكنيسة الى دعم الرسالة التبشيرية حول العالم.

من هو مالويان؟ ولماذا رُفِع على مذبح الكنيسة؟
إغناطيوس مالويان، المولود في ١٩ نيسان ١٨٦٩.  في ماردين  في تركيا التي كانت في حينه الأمبراطورية العثمانية، إسمه عند الولادة شكرالله، التسمية التي عكست مناخ التقوى والورع الذي إتسمت فيه نشأته في كنف عائلته، حيث القيم الإيمانية رسمت الملامح  الأولى لحياته الروحية والرعوية. ما إن بلغ الرابعة عشر من عمره حتى إكتشف دعوته الكهنوتية فانضم الى دروس المبتدين في دير بزمار  في قضاء كسروان في جبل لبنان.
بعد إنهاء دراسته الجامعية سيم كاهناً سنة ١٨٩٦ في كنيسة دير بزمار، واختار  الإسم الكهنوتي إغناطيوس تكريماً  للشهيد القديس إغناطيوس الإنطاكي .
بين سنة ١٨٩٧ و١٩١٠ عين كاهناً لرعية الإسكندرية والقاهرة، وعرف بسمعته الرعوية الطيبة.
في العام ١٩١١  رسمه البابا بيوس العاشر أسقفاً على ماردين، خلال إنعقاد سينودس الأساقفة الأرمن في روما، الذي تناول في جدول أعماله  الظروف المتغيرة في تركيا عقب صعود حركة الشباب الأتراك. 
لمع الأسقف إغناطيوس في إدارة أسقفيته، عرف عنه حماسه الروحي والقرب من رعيته، والإهتمام بالفقراء والإلتزام الرعوي. كما وبرزت جلية رغبته بالمصالحة والتدريس في سياقات إجتماعية إتسمت بالتوترات الدينية والسياسية. 
 عقب دخول الأمبراطورية العثمانية الحرب العالمية الأولى ١٩١٥. إستهدفت المسيحيين الأرمن بالتجنيد الإجباري، لينتهي بهم الأمر الى الإبادة الجماعية الممنهجة للجماعة الأرمنية على أراضي الإمبراطورية، وسط هذه الإضطرابات الدموية ألقي القبض على رئيس الأساقفة مالويان مع ١٣ كاهناً و٦٠٠ مسيحي، ومقابل حريته عرض عليه أن يعتنق الإسلام ويتخلى عن المسيحية، فكان رده حازماً: « إذا كان يسوع المسيح قد صلب وتعذّب من أجلي فلما لا أكون مستعداً للموت من أجله» وعلى إثر ذلك أعدم مع  باقي المعتقلين في ١٥ حزيران من العام ١٩١٥.
وقد طوّبه البابا يوحنا بولس الثاني في ٧ تشرين الأول ٢٠٠١، باعتباره شهادة أمل للمسيحيين المضطدين. واليوم ١٩ حزيران ٢٠٢٥ أعلنه البابا لاوون الرابع عشر قديساً مع ستة آخرين في كاتدرائية مار بطرس في الفاتيكان بحضور حشد كبير من الأرمن والحجاج المؤمنين من جميع أقطار العالم.
إنّ تقديس إغناطيوس مالويان، ليس مجرد إعلان كنسي لأمانة رجل مؤمن، إنّما إحياء أبضاً لذكرى الإبادة الجماعية التي أودت بحياة مليون ونصف مليون أرمني وآشوري ويوناني، وإحياء لذكرى شعوب عانت وضحّت بنفسها من أجل الحفاظ على هويتها الإجتماعية والدينية، ومالويان هو وجه من وجوه الشهداء الأرمن المجهولين، ويذكّر العالم بأنّ تضحياتهم تتجلى في إستمرارية الجماعة الأرمنية ومساهماتها في مختلف الصعد عبر كل دول الشتات في العالم. 
لذلك، فإن تجربة مالويان وتقديسه يقتضي تفكيك عدة مستويات من الدلالات المتشابكة. على المستوى اللاهوتي، يطرح تقديسه سؤالاً حول معنى «الشهادة» في العصر الحديث، وكيف يتحوّل فعل الإيمان الفردي المطلق في مواجهة الموت إلى «رجاء بين الشعوب» كما يعلن شعار الكنيسة في هذا اليوم العالمي للإرساليات. وعلى المستوى التاريخي والذاكرة، يصبح هذا التقديس فعلاً من أفعال «العدالة الرمزية»، وصوتاً كنسياً عالمياً يرفض سياسات النسيان والإنكار، ويمنح وجهاً وهوية لمئات آلاف الشهداء المجهولين الذين إبتلعتهم مأساة عام ١٩١٥. أما على المستوى الاجتماعي والسياسي المعاصر، فإنّ رفع شهيد من الشرق الأوسط إلى مصاف القداسة في روما يكتسب أهمية خاصة، إذ يسلط الضوء على قضية صمود الأقليات المسيحية في المنطقة، ويقدم نموذجاً للمقاومة الروحية في وجه الإقصاء والاضطهاد، ويؤكد أنّ الإعتراف بآلام الماضي هو شرط أساسي لبناء مستقبل قائم على التنوّع والقبول