الرهبانية اللبنانية المارونية.. حبر الإيمان الذي كتب التاريخ

الرهبانية اللبنانية المارونية.. حبر الإيمان الذي كتب التاريخ

  • ١٣ تشرين الثاني ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

330 عاماً مرت منذ أن اجتمع ثلاثة شبّان، عبد الله قرعلي، جبرائيل حوّا، ويوسف البتن، ليضعوا بذرة مسيرة ستصبح لاحقاً وجدان وطن.

في بلاد تتآكل فيها الذاكرة كما تتآكل الصخور تحت المطر، تبقى الرهبانية اللبنانية المارونية حجر الزاوية الذي لم يتصدع. 330 عاماً مرت منذ أن اجتمع ثلاثة شبّان، عبد الله قرعلي، جبرائيل حوّا، ويوسف البتن، ليضعوا بذرة مسيرة ستصبح لاحقاً وجدان وطن. لم يكونوا أمراء ولا أصحاب سلطة، بل شبّاناً يحملون إيماناً أعظم من أعمارهم، وحلماً بأن يكون للرهبان الموارنة بيت لبناني يحمل إسم أرضهم، في زمن لم يكن فيه لبنان دولة بعد، بل مجرد فكرة في قلب التاريخ.

 

منذ 11 تشرين الثاني عام 1695، والرهبانية اللبنانية المارونية تكتب سيرتها لا بالحبر فقط، بل بالعرق والحضور والدمع. هي الرهبنة الوحيدة في العالم التي حملت إسم وطنها الأم، لا زينة لغوية، بل إعلان إنتماء. «اللبنانية» في إسمها ليست مصادفة، بل جوهر وهوية. فالرهبان الذين نذروا الفقر والطاعة والعفة، نذروا أيضاً البقاء في هذا الجبل مهما تبدلت العصور، لأنّهم رأوا في لبنان أكثر من مساحة جغرافية، إنّما رسالة خلاص للأرض التي أحبّوها أكثر من ذاتهم.

منذ بداياتها، كانت الرهبانية وجه لبنان المشرق في كثافة العتمة. حين كانت الجبال معاقل خوف، جعلت منها مراكز معرفة أيضاً. حين كان الجوع يحاصر القرى، نحتت الجبال وزرعت الحقول وأطعمت الناس. حين كان الإحتلال يبدّل الأعلام والولاءات، بقيت الأديار ترفع صليباً واحداً متواضعاً لا يبدله أحد. لم تُنقذ الأرواح بالصلاة وحدها، بل بالعمل الدؤوب الذي حمى الأرض من النسيان. في أديرة قزحيا وعنايا، في ميفوق والكسليك، نُسجت حكايات الرهبان الذين كتبوا على الجدران قصصاً عن الإيمان والعمل والكرامة.

 

منذ أن نالت الإعتراف البابوي عام 1732، لم تكن الرهبانية جسداً كنسياً فحسب، بل عقلاً للبنان الناشئ. حملت على أكتافها فكرة التنظيم، والإدارة، والتعليم، والزراعة، والمطبعة، والموسيقى، واللاهوت، واللغة. هي التي أسست أولى المدارس النظامية، وخرّجت المعلّمين والمفكرين، وعلّمت أبناء الجبل كيف تُقرأ الكلمة وكيف تُكتب، ومتى يُرفع السيف ومتى يوضع في غمده. ومن رحمها خرج رجال شاركوا في بناء الكيان اللبناني، في صياغة مؤسساته، في الدفاع عن إستقلاله الأول والثاني، وفي الحفاظ على معنى الدولة عندما تحوّلت إلى غنيمة.

 

لم تكن الرهبانية في يوم من الأيام متفرجة على التاريخ، بل كانت أحد صنّاعه. يوم نزفت الأرض، كانت هي التي تضمد الجراح. يوم جاع الناس، كانت هي التي تزرع. يوم هاجر الأبناء، كانت هي التي تكتب أسماءهم في السجلات كي لا يُمحوا من ذاكرة البلاد. لقد رأت ما لم يرَه السياسيون ولا أصحاب المصالح: إنّ بقاء لبنان لا يكون بالخطابات، بل بالعمل الصامت والدائم. وأنّ الذاكرة حين تُترك بلا رعاة، تموت. ولهذا، كانت كنائسها ومكتباتها وأرشيفها ودفاترها درعاً في وجه النسيان، كما كانت أديرتها حصناً في وجه الخراب.

 

من بين جدرانها خرج قديسون لا يُقاسون بالزمن. شربل، الذي علّم العالم أنّ الصمت لغة الخلود. رفقا، التي حوّلت الألم إلى صلاة. نعمة الله، الذي جعل من التعليم خلاصاً. والأخ اسطفان نعمة، الذي عاش التواضع حتى صار معجزة. هؤلاء الأربعة لم يكونوا فقط وجوهاً للقداسة، بل مرآة لوجه الرهبانية نفسها. وجه لا يتعب، لا يتكلّم كثيراً، لكنه يترك أثراً في الوجدان والنفوس لا يُمحى.

واليوم، بعد ثلاثة قرون وثلاثة عقود، تحتفل الرهبانية اللبنانية المارونية بذكرى تأسيسها وهي لا تنظر إلى الماضي بحنين فقط، بل بإصرار على الإستمرار. لم تتبدّل رسالتها، بل تجدّدت في مؤسساتها، في جامعاتها ومدارسها المنتشرة على مساحة الوطن، في مستشفياتها، في حقولها ومطابعها ومراكزها الثقافية. ما زالت تعرف أنّ بناء الإنسان والوطن هي المعركة الوحيدة التي تستحق أن تُخاض. وما زالت تؤمن أنّ الدفاع عن لبنان لا يكون بالسلاح ولا بالشعار، بل بالمعرفة والقداسة والإلتزام بالحقّ.

 

هي الرهبانية التي عاشت الدولة اللبنانية في قلبها قبل أن تُعلَن على الورق، والتي ظلت وفية للمعنى الأعمق للبنان، وطن العمل والعلم والكرامة والإيمان. فمن دير إلى دير، من كتاب إلى كتاب، من جيل إلى جيل، حفظت الأمانة التي أوكلها إليها التاريخ. ولأنّها كذلك، لم تخضع للزمن، بل جعلت الزمن يخضع لرسالتها.

 

ثلاثمئة وثلاثون عاماً من الصمت الذي يتكلم، ومن النسك الذي يبني، ومن الإيمان الذي لا يساوم. ثلاثمئة وثلاثون عاماً من النور الذي لم ينطفئ رغم الحروب والإنقسامات والهجرة والخذلان. وفي كل عيد جديد، تثبت الرهبانية اللبنانية المارونية أنّها ليست مجرد جماعة دينية، بل روح لبنان العميقة، ذاكرته التي لا تموت، وضميره حين يضيع الضمير.

 

فليكن عيدها مناسبة لنتذكر أنّ هناك من صلى لكي يبقى هذا البلد قائماً، ومن كتب لكي لا يُنسى، ومن أحب ترابه كما يُحَب الخبز والنبيذ. فهؤلاء الرهبان الذين عاشوا على القليل، أعطونا الكثير. وحين نبحث عن المعنى في زمن بلا معنى، يكفينا أن نصعد إلى دير من أديرتهم، لنسمع في صمت الحجر المربّع نبض وطن لم يمت بعد...