نوح زعيتر.. من الكْنَيسة الى السجن

نوح زعيتر.. من الكْنَيسة الى السجن

  • ٢١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

سقوط «إسكوبار لبنان» الذي تحوّل إلى «ظاهرة». وبدا أقرب إلى نموذج مُختلط بين إبن العشيرة وإبن العولمة، بين ريف البقاع ومدرجات الجامعات الأجنبية.

لم يكن إعتقال نوح زعيتر مجرد توقيف مطلوب فار من العدالة. كان المشهد بالأمس أشبه بانهيار كتلة صخرية ظلت رابضة على صدر البقاع لسنوات طويلة. الرجل الذي حوّل بلدة الكنَيسة البقاعية إلى ما يشبه معقلاً حصيناً لا يصل إليه القانون، سقط أخيراً في كمين هادئ نفذته مخابرات الجيش في لحظة طال إنتظارها بحق أسوأ رجل في لبنان.

المفارقة أنّ الرجل الذي عاش لسنوات سيداً على تخوم الدولة، لم يكن إبن الفوضى وحدها. تعلّم زعيتر في الخارج لفترة، وامتلك في أول شبابه من الثقافة والخبرة ما يكفي لفهم كيف تُدار الشبكات، وكيف تُبنى الأساطير، وكيف يتحوّل الفرد إلى «ظاهرة». وبهذا، بدا أقرب إلى نموذج مُختلط بين إبن العشيرة وإبن العولمة، بين ريف البقاع ومدرجات الجامعات الأجنبية.

وفي هذا التناقض، تشكلت أسطورته. لم يكن مجرد تاجر مخدرات. كان أشبه برواية كاملة تُروى. رجل عاش خارج القانون ووسط جمهوره، هو«طافر» مسلح مطمئن، ومحاط بالعشيرة والولاء والخوف معاً... وبالكثير من الأسلحة.

وهنا يبرز التشبيه الذي يردده أبناء المنطقة دوماً. فكما صنع بابلو إسكوبار في كولومبيا «حصن ميديين» الخاص به، صنع نوح زعيتر في الكنَيسة ميدان نفوذ يختلط فيه المال بالسلاح، والتهريب بالحماية، والعشيرة بالدولة الغائبة. وكما كان إسكوبار يقدّم نفسه كأب للفقراء والمدافع عنهم، كان زعيتر يطل بوجه رجل «الحق والرجولة»، بينما تدير شبكاته تجارة معقدة عابرة للحدود أبكت الكثير من الأمهات على فقدان أولادهنّ في عالم تعاطي المخدرات.

لكن لحظة الأمس ليست لحظة تشبيه أدبي فقط، بل لحظة تحوّل سياسي - أمني. ففي الأشهر الأخيرة، داهم الجيش اللبناني عشرات أوكار تصنيع الكبتاغون، فكك معامل كانت تُعتبر عصيّة على المسّ، وأوقف مطلوبين من الصف الأول. هذه الموجة ليست مفصولة عن التراجع الذي أصاب «حزب الله» بعد الحرب الأخيرة، على جميع الأحوال. فالحزب الذي كان يمسك بمفاصل النفوذ في البقاع وبتوازنات دقيقة تمنح تغطية غير مباشرة للإقتصاد الموازي، بات أقل قدرة على إدارة التفاصيل، وأكثر انشغالاً بترميم حضوره جنوباً وداخلياً.

ومع هذا الضعف النسبي، انفتح المجال أمام الدولة. ما كان يُقال إنّه «مستحيل» صار يحدث. الجيش يدخل، يواجه، يعتقل، وحتى نوح زعيتر نفسه يسقط دون مواجهة، فيسلّم نفسه عندما لم يعد هناك مَن يستطيع حمايته كما في السابق.

لكن زعيتر ليس مجرد مطلوب. هو صورة لمرحلة كاملة من إقتصاد الظل الذي تمدّد بين لبنان وسوريا، وارتبط بأسماء نافذة وممرات حدودية وشبكات تمويل وعصابات مسلحة. ومثل بابلو إسكوبار، لم يسقط زعيتر حين أصبح أخطر، بل حين أصبحت المنظومة التي تحميه أضعف.

وهكذا، يسقط زعيتر في لحظة تشبه النهاية المرتبكة لأسطورة انتفخت أكثر مما تحتمل. رجل ظن أنّ «سيف الدولة» سيبقى قصيراً إلى الأبد، وأن تحويل بلدة إلى مربّع أمني يحكمها بالهيبة والمصلحة يمكن أن تصنع «بابلو إسكوبار» لبنانياً يستعصي على الدولة. فإذا به، عند أول هزة في ميزان القوى، ينتهي دوره ويظهر بحجمه الحقيقي، مجرد رجل عصابة عادي لم يكترث كثر له حتى عندما تم توقيفه.

لكن الأهم ليس سقوطه، بل صعود الدولة مجدداً من خلال مؤسستها العسكرية. هذا الجيش الذي داهم عشرات الأوكار خلال الأسابيع الماضية، وكسر خطوطاً حمراء أرساها النفوذ المسلح لسنوات، يثبت اليوم أنّه حين تتراجع القبضة التي شلت الدولة طويلاً، تعود المؤسسة العسكرية لتتنفس وتتحرك فتستعيد دورها الطبيعي.

وهنا، يصبح الواجب واضحاً. ما حصل مع نوح زعيتر ليس نهاية الطريق، بل بدايته. ومن المفروض أن يكمل الجيش مهمته بلا تردد، وأن يُطارد كل المطلوبين، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، شيعة وموارنة وأرمن وكلدان... بلا استثناء. فالدولة لا تُبنى باعتقال تاجر موت واحد، بل بإسقاط المنظومة التي جعلت أمثاله يظنون يوماً أنّهم أعلى من القانون.

هذه لحظة للثبات، لا للتراجع. وللجيش أن يُكمل عمله.. حتى النهاية.