صناعة الأكاذيب على ضفاف الليطاني

صناعة الأكاذيب على ضفاف الليطاني

  • ٢١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
  • مكرم رباح

أي نسخة من سامي علوية يجب أن نصدّق؟ نسخة ظهوره الأخير مع الإعلامي ألبير كوستانيان حين صرّح بأنّ الليطاني تحوّل إلى مجرور عملاق؟ أم نسخة مقاله في جريدة الأخبار، حين حَوَّل فجأة المجرور نفسه إلى «مورد صالح للرّي والسباحة»؟

 

من المؤسف أن يُطِل المدير العام لمصلحة مياه الليطاني، السيّد سامي علوية، بمقابلة إعلامية ليروي فيها بالأرقام الدقيقة حجم الكارثة البيئية التي ضربت حوض نهر الليطاني، بَدءًا من المجارير التي قضت على ملايين الأمتار المكعّبة، إلى عشرات آلاف المخالفات وبناء عشرات المصانع العشوائية، وصولاً إلى مخيّمات النازحين السوريين التي التي ترتب عليها زرع «سبعين ألف حمام»؛ والمفارقة أنّ الرجل نفسه كان قد أصّر، في رسالة رسمية نُشِرت سابقًا في جريدة الأخبار تحت عنوان: «هل تقرّ الجامعة الأميركية بمنطق الإستيلاء على ثروات شعوب بحجة الإهمال؟». على أنّ النهرَ… صالح للسباحة.

أي نسخة من سامي علوية يجب أن نصدّق؟ نسخة ظهوره الأخير مع الإعلامي ألبير كوستانيان حين صرّح بأنّ الليطاني تحوّل إلى مجرور عملاق؟ أم نسخة مقاله في جريدة الأخبار، حين حَوَّل فجأة المجرور نفسه إلى «مورد صالح للرّي والسباحة»؟

هذا التناقض ليس هفوة لسان ولا إختلافاً في التقدير. إنّه نموذج مكتمل من التناقض السياسي:

إنّه اعتراف كارثي أمام الكاميرا، وتلميع صورة أمام المنظومة. عندما يخاطب علوية السلطة يتحوّل التلوث إلى نقاء، والمجرور إلى «ثروة»، والكارثة الصحية إلى «حق مكتسب»

وما يجب كشفه هنا بوضوح هو أنّ المقال الذي نشرته جريدة الأخبار لم يكن مجرد رأي ولا «موقفاً بيئياً»، بل كان جزءاً من حملة مُمَنهجة ضدّي، قادها حزب الله مباشرة بعد تفنيدي لمزاعمه حول «طَمَع إسرائيل بالمياه اللبنانية»، وسُخريَتي من أنّ الطبقة الحاكمة، بقيادة الحرس الثوري بفرعه اللبناني، هي من حَوّلت الليطاني إلى قناة صرف صحي، ثم تريد أن تحاضر بالأمن المائي والسيادة.

وبالتوازي مع هذا الهجوم الإعلامي المُنَظَم، تحرّك جزء من القضاء العسكري المتواطئ مع الحزب لمحاولة استدعائي، في مشهد بات مألوفاً: إعلام الحزب يهاجم، المؤسسات الموالية تُضَخّم، والقضاء التابع يُلوّح بالملاحقة. تماماً كما حدث قبل أشهر حين اندفع سامي علوية نفسه لكتابة رسائل تحريضية ضدي، محاولاً تحويل رأي سياسي إلى جرم.

وبالتالي إنّ الوقائع ذات العلاقة تَنسِف الخرافة من جذورها: إنّ تلوث الليطاني غير ناجم عن «الإهمال»، بل تسبّب به خضوع المصلحة الإدارية التي تتولى شؤون هذا المورد البيئي لمنظومة تحمي الملوّثين وتهاجم من ينطق بكلمة الحق ويُجاهر بالحقيقة.

في مقابلاته، يُحدثنا علوية عن وجود ملايين الأمتار المكعّبة من مياه الصرف الصحي، وعن المصانع غير المرخصة، وعن الإعتداءات وانهيار البنى التحتية، إضافة إلى عجز الدولة. ثم في مقاله الرسمي يهاجم من وصف هذا الواقع على ما هو عليه، ويتهمه بـ«تشجيع الإستيلاء على الموارد!»

إلا أنّ الحقيقة الناصعة هي ببساطة التالية: إذا كان النهر «مجروراً» كما يقول في مقابلاته، فهذا ليس لأنّ الشعب أهدره، بل لأنّ المنظومة، التي تطلب منه الآن كتابة المقالات، حوّلته إلى مجرور. ومن يسيء إلى «الثروة الوطنية» ليس هو من يكشف التلوث، بل من يتسبّب به، ويغطيه، ويُخفي الكارثة بشعارات «البيئة» و«السيادة».

مشكلة علوية ليست مع جملة قلتها، بل مع واقع يحاول محو أثره. النهر ملوّث، الدولة فاشلة، المنظومة متورطة، والشعب يدفع الثمن. وأكثر ما يزعجه أنّ أحداً يرفض المشاركة في مسرحية «كل شي ماشي».

ولأنّ ألبير كوستانيان استضافه، فمن الضروري التذكير بأنّ فَتِح منبر لمهرطق يرتدي عباءة المسؤول البيئي لا يصنع معرفة ولا يكشف حقيقة. إعترف الرجل أمام الكاميرا بوجود كارثة، ثم أنكرها في مقالات صحفية. بين النسختين، الحقيقة ليست ضائعة.. الحقيقة مخنوقة.

وبناءً على ما أفاد به في مقابلاته، وانطلاقًا من دفاعه المستميت في رسائله عن «نقاء» الليطاني، الى حدّ اعتبر فيه النهر صالحاً للسباحة والري، فإنّني أدعوه، وبكل احترام، إلى أن يكون أوّل من يشرب كوباً من مياه الليطاني المصفّاة بعلمه وإدارته.

فذلك أقل ما يمكن تقديمه لرجل سخّر منصبه لا لتحسين بيئة بلده، بل لخدمة منظومة قضت على النهر… وتريد اليوم طمس الحقيقة في أعماقه.

وعلى أمل أن تكون صحته البيئية مثل صدقه الأكاديمي. لا نزيد.