من الهدنة إلى «الميكانيزم»: تاريخ لبنان مع التفاوض المباشر
من الهدنة إلى «الميكانيزم»: تاريخ لبنان مع التفاوض المباشر
التفاوض مؤلم أحياناً، لكنه عمل جراحي يحمي الجسد قبل أن يتعفن، ويحوّل القوة إلى حق، والإستنزاف إلى استثمار، والتهديد إلى فرصة.
ينظر كثيرون إلى أي خطوة نحو التفاوض مع إسرائيل وكأنّها خيانة كبرى، وكأنّ مجرد الجلوس على طاولة مشتركة يتناقض مع الوطنية. لكن الواقع، كما علمتنا التجارب، مختلف تماماً. التفاوض ليس بدعة، ولا نكوصاً عن المبدأ، بل هو مسار متكرّر في لحظات الحسم، وسجل تاريخي طويل يمرّ من هدنة 1949، إلى إتفاق 17 أيار، مروراً بوقف النار عام 1996، وصولاً إلى ترسيم الحدود البحرية في السنوات الأخيرة.
لبنان جلس دائماً على الطاولة ليس بدافع المحبة للعدو، بل دفاعاً عن مصالحه وحماية لأراضيه واستقراره، ومحاولة لتقليل الخسائر قبل أن تتحول الوقائع إلى أزمات لا يمكن السيطرة عليها. واليوم، عبر لجنة الميكانيزم والسفير سيمون كرم، يستكمل هذا النهج التاريخي، محاولاً تحويل التفاوض إلى أداة وطنية لا غنى عنها.
هدنة 1949 لم تكن سلاماً، لكنها أعطت لبنان خطوط أمان بعد حرب مريرة، وحفظت القرى والمدن الجنوبية من الإنزلاق المفتوح نحو العنف. كانت تجربة إعتراف بالواقع، بأنّ الحدود الجغرافية لا تتغير بالأحلام والشعارات، وأنّ قوة الدولة تقاس بقدرتها على حماية أرضها وسكانها حتى في لحظات الهزيمة. أما إتفاق 17 أيار 1983، بعد الإجتياح الإسرائيلي، فقد سقط لاحقاً تحت وطأة التحولات المحلية والإقليمية، لكنه أثبت درساً ثابتاً، التفاوض وسيلة لاحتواء الخسائر، وانتزاع المكاسب حين تُفرض المعادلات الدولية، وأنّ الجلوس على الطاولة حماية قبل أن يصبح الإنكشاف كارثة.
وفي حرب نيسان 1996، نجح لبنان عبر لجنة مراقبة وقف النار في حماية المدنيين وضبط قواعد الإشتباك، فتجلت هنا حكمة التفاوض المباشر حتى مع الخصم. لم يكن التفاوض رفاهية دبلوماسية، بل وسيلة لتقليل الضرر، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإعادة صياغة التوازنات، ولو مؤقتاً، قبل أن تتحول الساحة إلى مساحة مفتوحة للتدمير. تجربة أثبتت أنّ القوة وحدها لا تكفي، وأنّ العقل الدبلوماسي يمكن أن يحول المعركة إلى استثمار، بدل أن تكون مجرد تكرار للعنف المستمر.
وفي السنوات الأخيرة، جلس لبنان لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل عبر وفود تقنية، ليس حباً بالعدو، ولا استسلاماً للضغوط، بل لحماية حقوقه الإقتصادية وتأمين مستقبل موارده الطبيعية. التفاوض هنا كان الوسيلة الوحيدة لترجمة القوة إلى مكاسب ملموسة، بدل أن تتحول موارد الوطن إلى ساحة نزاع دائم لا جدوى منه. كانت فرصة لتثبيت الحقوق، ولضمان أنّ الإستثمارات القادمة لن تُستنزف في معارك غير محسوبة، بل تُوظف في خدمة الإقتصاد اللبناني، الذي يعاني أصلاً من ضعف مستمر على كل الأصعدة.
اليوم، ومع لجنة الميكانيزم والسفير سيمون كرم، يواصل لبنان هذا النهج التاريخي. التفاوض ليس خيانة، بل إستثمار للحق والأرض والمصلحة. الخيانة الحقيقية هي رفض الجلوس على الطاولة وترك الآخرين يعيدون رسم الحدود والمصالح بينما نحن نرفع الشعارات، أو الإنشغال بمواقف رمزية لا تغني عن شيء أمام الخطر الواقعي. التفاوض ليس رفاهية، بل أداة دفاعية واستباقية.
لبنان يفاوض ليس لأنّه يحب إسرائيل، ولا لأنّه يثق بالدبلوماسية، بل لأنّه يحب وطنه ويريد حمايته. ليس لأنّ السلام وشيك، بل لأنّ البديل هو حرب قد تُترك آثارها لعقود، وحرب قد تُفرض على شعب يعاني أصلاً من الإنقسام الإقتصادي والسياسي والإجتماعي. التفاوض مؤلم أحياناً، لكنه عمل جراحي يحمي الجسد قبل أن يتعفن، ويحوّل القوة إلى حق، والإستنزاف إلى استثمار، والتهديد إلى فرصة.
ولعل من أبرز مزايا هذا النهج أنّه يفرض على الجميع، اللبنانيين والإسرائيليين على حد سواء، التعاطي مع الواقع بدل الإنغماس في أوهام القوة المطلقة. فالتفاوض يكشف النوايا على حقيقتها، ويضع حدوداً واضحة لما يمكن وما لا يمكن فعله، ويتيح للبنان مساحة من التحكم في واقعه، ولو كانت هذه المساحة محدودة. إنّه استثمار في الإستقرار والإقتصاد والكرامة الوطنية، قبل أن يصبح الخيار متأخراً.
التاريخ يؤكد أنّ لبنان لم يختَر التفاوض هباءً، بل لأنّه يعي أنّ كل فرصة لتثبيت الحقوق وحماية الأرض والموارد لا تأتي إلا بالجلوس على الطاولة، وبمواجهة الحقائق بصراحة وجرأة. التفاوض هو محاولة لتصحيح مسار الحروب الماضية، وإعادة ترتيب الأولويات، وتوفير الأدوات التي تحمي الدولة والمواطنين معاً.
فأعطوا التفاوض فرصة. ليس لأنّ العدو تغير، بل لأنّ لبنان يجب أن يحمي مصالحه ويكتب تاريخه بيده، قبل أن يُفرض عليه واقع لم يختاره. ليس لأنّه سلام وشيك، بل لأنّ البديل هو ضياع ما تبقى من الأرض، والحقوق، والمستقبل. التفاوض أداة، والتاريخ يعلمنا أنّ الأداة الجيدة، حتى مع العدو، أفضل من انتظار الحسم الدموي الذي لا يرحم أحداً.

