يطرح هذا السؤال نفسه بعد ورود أسماء بعض الضباط الدروز بين القتلى العسكريين الإسرائيليين الأعلى رتبة وهما المقدم «سلمان حبكة» قائد الكتيبة ٥٣، والمقدم «عليم سعد» نائب اللواء ٣٠٠ في فرقة الجليل منذ عملية طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣.
لقد أظهرت شهادات جمعها الكاتب الإسرائيلي «شمعون أفيفي» الذي خدم في الشاباك لأربعين عاماً أنّ النقاش حول تجنيد الأقليات في فلسطين لاسيّما الدروز كان قائماً في أوساط الحركة الصهيونية منذ ما قبل تأسيس إسرائيل . وتظهر وثائق تاريخية من داخل الحركة الصهيونية أنّ مؤسس الكيان الإسرائيلي «دايفيد بن غوريون» كان الأكثر تصميماً على تجنيد الدروز مهما كلّف الأمر، معتبراً أنّ ضمّ الدروز إلى الجيش يحمي دولة إسرائيل ويعزّز علاقاتها مع طائفة موجودة في فلسطين ولها إمتدادها في الدول العربية المجاورة لها.
لم يكن إستقطاب الإحتلال للأقلية الدرزية سهلاً، وضعت رئاسة الأركان الإسرائيلية في السنوات الأولى خططاً عديدة لاستمالة الدروز من باب مشايخهم الذين يمثلون المرجعية الروحية والإجتماعية لأبناء الطائقة. وقد إستفاد الإسرائيليون من التباينات بين المرجعيات الدرزية وصراعاتهم. إلّا أنّ نقل الدروز إلى الدبابة الاسرائيلية لم يكن بالأمر اليسير.
في عام ١٩٥٣ هدّد الشيخ «أمين طريف»، وهو أحد المرجعيات الدرزية بالحرمان الديني لكل من يتطوّع في الجيش الإسرائيلي، وشنّ حملة في أوساط النساء الدرزيات ضدّ تجنيد أبنائهن وإمتنع عن المصادقة على زواج الجنود معتبراً أنّ التجنيد يلطخ إسم الطائفة الدرزية.
(الشيخ أمين طريف - أحد أبرز المشايخ الدروز الذين وقفوا بوجه تجنيد الدروز في الجيش الاسرائيلي)
ولكن مقابل الشيخ «أمين طريف» ومجموعة من المشايخ التي وقفت في وجه التجنيد في أولى سنوات قيام الدولة، جاهر تيار درزي آخر بالتعاون مع الإسرائيلين على كلّ المستويات ومنها قبول التجنيد، ومن أبرز وجوهه الشيخان «صالح خنيفيس» و«لبيب أبو ركن». غير أنّ إسرائيل تمكنت من تفكيك الإنقسام الدرزي الفلسطيني لصالحها بإستغلال أحداث عام ١٩٥٤عندما بدأت تصل إلى دروز الأراضي المحتلة أخبار تنكيل الرئيس السوري آنذاك «أديب الشيشكلي» بدروز جبل العرب بعد إتهام الأخير ل«سلطان باشا الأطرش» وإبنه بمحاولة الإنقلاب على حكمه.
وغطت الصحف والإذاعات الاسرائيلية أخبار تنكيل «الشيشكلي» بالدروز واستثمرت بالحادثة إلى حدّ بعيد لتحريك الرأي العام الدرزي في الكرمل والجليل. وفي خضم هذا التعاطف الطائفي، تناست القيادات الدرزية خلافاتها وأصدرت مرجعيات درزية مختلفة بياناً مشتركاً طالبت فيه حكومة الإحتلال بالإتصال الفوري بالدول الأجنبية المؤثرة في سوريا والأمم المتحدة ومجلس الأمن لوقف إجرام الشيشكلي في حقّ دروز جبل العرب. فما كان من إسرائيل إلّا أن تتلقف هذا المطلب لإستثماره فيما كانت تخطط له منذ أمدٍ طويل، وسارعت إلى تشكيل لجنة عامة لمتابعة أحوال دروز سوريا.
وما هي إلا سنوات قليلة حتى تحوّل تجنيد الدروز الطوعي إلى تجنيد إجباري ففي عام ١٩٥٦ وبمباركة بعض المراجع الدرزية التي وقفت منذ البدء بوجه المعارضة الدرزية الرافضة الإنضمام الى الجيش الإسرائيلي . وفي الجهة المقابلة قاد الشيخ «فرهود قاسم فرهود» المعارضة الدرزية الرافضة للتجنيد الإجباري تحت أي ذريعة. فأرسل للرئيس الإسرائيلي عريضة موقعة من ٤٢ مرجعاً دينياً درزياً يرفضون التجنيد الإجباري. كما أنّ قرابة٨٠٪ من الشباب الدروز ممن إستدعوا للخدمة العسكرية قد رفضوا الإنضمام إلى الجيش. ليأتي الرّد الاسرائيلي بوجه الرافضين للإستدعاء السجن والتنكيل بهم، ونظراً لهذه الضغوط تحوّل التجنيد الإجباري تدريجياً إلى أمر واقع تجنباً للتنكيل والإعتقال.
في شباط ١٩٥٧ رفع المشايخ عريضة أخرى للحكومة الاسرائيلية مفادها أنّهم عرب في إسرائيل طالبين معاملتهم كسائر العرب، ورافضين مجدداً التجنيد تحت ذريعة أنّ العربي لا يحارب أخاه العربي. وخونوا كل المرجعيات التي طالبت بتجنيد الدروز.
وقد حاول الكاتب الإسرائيلي «هليل كوهن» تفسير سبب الإصرار الإسرائيلي على تجنيد الدروز دون سواهم من خلفية إسرائيلية ليعترف في خلاصة دراسته أنّ السبب فعلاً لا يتعدى الخطة الصهيونية لفصل الدروز عن هويتهم العربية وهذا ما حذّر منه مراراً كل من «كمال جنبلاط» و«سلطان باشا الأطرش».
وفي موازاة هذا الواقع كان لدى الإحتلال خطة ممنهجة لتطويعهم دون مقابل أو إمتياز فهم كغيرهم من عرب إسرائيل ، لقد صودرت أراضيهم إذ خسر الدروز بين ١٩٤٨ و٢٠٠٦ حوالى ٧٠٪ من أراضيهم. ويتمّ تضييق الخناق الإقتصادي عليهم مما حدّ من خياراتهم في سوق العمل لتصبح الحصيلة أنّ ٨٢٪ من القوى العاملة الدرزية في إسرائيل تعمل داخل الأجهزة الأمنية الاسرائيلية.
وهكذا قد تمكنت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من تحويل الدروز إلى مجتمع منفصل عن العرب رغم كونهم جماعة إثنية ذات هوية عربية، وفي الحرب المستمرة على غزة ولدوافع معلومة يعزّز الإحتلال إعلامياً دور الدروز في المعركة مصوراً دعمهم التام لإسرائيل وليس بمستغرب في هذا الإطار أن نرى الرايات الدرزية على الدبابات الإسرائيلية كتأكيد إسرائيلي لهذا الواقع. لكن حتّى يومنا هذا ما زالت أصوات كثيرة مناهضة لمشروع تهويد الطائفة الدرزية وطمس هويتها الفلسطينية وجعلها وقود حرب وأداة بروباغندا. والناشطون الدروز في فلسطين كّثر منهم «ميسان حمدان» و«هدية كيوف» و«يامن زيدان» وغيرهم، كانوا قد أطلقوا منذ سنوات قليلة حملة « #أُرفض_شعبك_بيحميك» لإسقاط التجنيد الإجباري وتثبيت عربية الدروز، والحملة مستمرّة إلى اليوم ونشاطها في حيفا والكرمل والجليل.