تضمَّن تقرير لجنة المال والموازنة، التي يرأسها النائب إبراهيم كنعان، لوماً لغياب «الرؤية الإقتصاديّة الواضحة التي تقتضيها هذه الظروف الإقتصاديّة الصعبة من خلال تشجيع الإستثمار وتوسيع الإقتصاد وإستجلاب رؤوس الأموال الأجنبيّة»، كما طالب المرشح الرئاسي السابق ميشال معوض العمل على إقتصاد منتج لتأمين جباية أفضل.
في الشكل، يمكن تقديم أفكار وحلول مثالية، وفي الواقع تعكس أحاديث النواب خفة في التعامل مع الوضع الإقتصادي، وهي خفة معتادة منذ إنفجار الأزمة. الحديث عن إقتصاد منتج يعني أخذ تدابير مواكبة له. وبما أنّ الدستور ينصّ على أنّ الإقتصاد اللبناني رأسمالي حرّ، يجب العمل على قواعد السوق الحرة، وتأمين سبل الإستثمار والتنافس للبنانيين والمستثمرين الأجانب.
لكن كيف يمكن جذب المستثمرين في ظل غياب المرافق الأساسية للإنتاج، مثل البنى التحتية. إذ لا كهرباء ولا ماء ولا إتصالات ولا شبكة إنترنت جيدة، ولا طرقات آمنة بالحدود المقبولة، كلها سترتب على المستثمرين تكاليف إضافية. هذه الخدمات العامة من المفترض أن تقدمها الدولة، ولتحقيق هذا الأمر، يجب أن تتوفر الموارد المالية لتمويل هذه المشاريع، وتحقيق الهدف من الموازنة.
تمويل موازنة الدولة يحصل بطريقتين، الإقتراض وفرض الضرائب. ومع ذلك يواجه الإقتراض رفضاً من قِبَل مصرف لبنان ، أما فرض الضرائب، يعيقه خبث السياسيين، وخلفهم التجار والمصرفيين وكبار المستثمرين بشيطنة الضرائب بحجة حماية المواطنين وذوي الدخل المحدود، وبالتالي، يقفل النقاش كلياً حول فرض ضرائب على الأثرياء، علماً أنّ هذه العملية تضمن عدم تراكم الثروة، والتوزيع العادل بين فئات المجتمع، وتساهم في منع الأزمة الإقتصادية الناجمة عن تركز الثروة، وهي بمثابة عمل تعاضدي إذا أقرّت بشكلٍ عادل.
خلال المنتدى الإقتصادي العالمي في دافوس في الأسبوع الفائت، قدّم أكثر من 200 مليونير رسالة إلى المديرين التنفيذيين للشركات والمليارديرات الذين كانوا حاضرين، يطالبون بفرض الضرائب على فاحشي الثراء. وتعتزم مجموعة من المشرّعين في سبع ولايات أميركية، وهي كاليفورنيا كونيتيكت وهاواي وإلينوي وماريلاند ونيويورك وواشنطن، تقديم مشاريع قوانين هذا الأسبوع من شأنها رفع الضرائب على الأغنياء، بحسب ما ذكرت صحيفة واشنطن بوست. وأعلى شريحة ضريبة دخل إتحادية في الولايات المتحدة هي 37٪. بالنسبة للسنة الضريبية 2024، ينطبق هذا المعدل الأعلى على دافعي الضرائب الفرديين الذين يزيد دخلهم عن 609.350 دولاراً (أو 731.200 دولاراً للأزواج الذين يقدمون طلبات مشتركة).
تخطى الحديث في الولايات المتحدة الأميركية، عن إمكانية فرض ضريبة على الثروة، ليصل الى مستوياتها. عام 2019، قال المستثمر وارن بافيت إنّ الأثرياء الأمريكيين، بما في ذلك هو نفسه، لا يدفعون ما يكفي من الضرائب. وقال رئيس شركة بيركشاير هاثاواي لشبكة «سي إن بي سي» «إنّ الأثرياء يدفعون حتماً ضرائب أقل مقارنة بعامة السكان».
وكان بافيت قد كتب مقالة إفتتاحية في «صحيفة نيويورك تايمز» عام 2011، بعنوان «أوقفوا تدليل فاحشي الثراء»، دعا فيها إلى فرض معدلات أعلى على الدخل الخاضع للضريبة الذي يتجاوز مليون دولار، مع زيادة إضافية لأولئك الذين يكسبون أكثر من 10 ملايين دولار. ولإثبات وجهة نظره، أشار بافيت أيضاً إلى أنّه يدفع معدل ضرائب أقل من الذي يدفعه سكرتيرته.
لا ضريبة على الثروة في لبنان، ورئيس الحكومة الذي تبلغ ثروته 2.4 مليار دولار، بحسب آخر تحديث لمجلة «فوربس» في 20 كانون الثاني 2024، معفى من الضريبة على ثروته، غير أنّه يرد على مداخلات النواب حول الموازنة بقوله «جميعنا في منزل واحد وتحت سقف واحد، إذا تصدّع، لا سمح الله، فسينهار علينا جميعاً». وهذا المنزل لا يتحمل فيه ميقاتي أي مسؤولية مالية.
إبتداء من عام 2025، ستفرض ولاية سان فرانسيسكو ضريبة على أصحاب المباني التي تحتوي على ثلاث وحدات سكنية أو أكثر، إذا بقيت شاغرة لأكثر من 182 يوماً في السنة الضريبية. وستتراوح الضرائب الأولية من 2500 دولار إلى 5000 دولار سنوياً لكل وحدة فارغة، إعتماداً على حجمها، ومن المقرّر أن تزيد الرسوم إلى 20 ألف دولار لكل وحدة في السنوات القادمة. وتهدف الضريبة على الشغور الى منع أصحاب المباني من رفع الأسعار، ليتمكن الناس من إيجاد سكن لائق.
أما في فرنسا، فتصل الضريبة على الشغور الى 17 في المئة للسنة الأولى (12.5 في المئة سابقاً)، و34 في المئة للسنوات اللاحقة (25 في المئة سابقاً). وفي لبنان، لا ضريبة على الشغور، مما يسمح للمالكين بوضع أسعار خيالية ليتحوّل السكن الى ترف، في وقت تبلغ الشقق السكنية الفارغة أكثر من 23 في المئة من الوحدات المبنية بين عاميّ 1996 و2018، بحسب أرقام صندوق النقد الدولي.
يتوسّع الحديث أكثر ليطرح أسئلة حول الحاجة إلى كل هذا المد العمراني، بغياب تنظيم مدني يحدّد حاجة المدن للوحدات السكنية، والمتاجر والمؤسسات، و مراكز الترفيه والحدائق العامة والمساحات المجانية. ويذهب النقاش الى كيفية شق الطرقات، بين تحديد مسارها والبناء على أساسها، أم شق الطريق وفق العمران الموجود، حتى ولو كان عشوائياً.
الضريبة على الثروة وعلى الشغور، أمثلة بسيطة لكيفية تأمين موارد مالية، تفعّل عمل الوزارات، والتي ستشكل أرضية لبيئة الأعمال، خاصة في مجال التكنولوجيا، وربما تفسح المجال لطموحات النائب السابق نعمة فرام ببناء سيليكون فالي في لبنان.
إن كان السياسيون يريدون إقتصاداً منتجاً، عليهم العودة الى الدستور، والى قواعد النظام الرأسمالي وتطبيقه، ويبدأ العمل بإقرار قوانين تمنع الإحتكار، خاصة وأنّ آليات عمل إقتصاد السوق تؤدي حتماً إلى الإحتكار. أما أي حديث عن تمويل للدولة من خارج الضرائب، أو إعتبار أنّ الدولة هي المسؤولة عن الإنتاج، نصبح في دولة ذات إقتصاد موجّه، ويتطلب بداية تغيير الدستور، لتعريف النظام الإقتصادي على أنّه إشتراكي. ومع إبقاء الإقتصاد في دائرة النخب، ستبقى الحملات المحاربة لكل ما هو عادل، ولو بالحد الأدنى.