لا يُفارق الطيران الإسرائيلي، الذي ضرب وسط البلدة سابقاً، بخمسة صواريخ في حادثة واحدة، أجواء كوكبا. والقصف المتكرّر على البلدات المحيطة لها، يرخي بثقله على المنطقة كلّها، حيث الحركة بأدنى مستوياتها والسكان خائفون. إلا أنَّ نجاح أهالي البلدة في الإستثمار بمدلولاتها الدينية، ومقوماتها البيئية، جعل السلام يطفو على سطحها، يرادف إسمها، رغم الحرب والمخاطر.
كوكبا الجنوبية.. المسيح مرّ من هنا
السيّد المسيح وأمّه مريم، مرّا من تلك البلدة الجنوبية، بحسب دراسات مُعمّقة بشؤون التاريخ والميثولوجيا والأديان. مرَّا أثناء قدومهما من مرجعيون بإتجاه حرمون. شعر السيّد المسيح بالعطش، ففجّر عيناً وسط البلدة، وبقدسيّة عالية تحمل إسمه إلى اليوم «عين المسيح» وهي من أشهر المواقع في البلدة والجنوب كلّه.
لا تقف الرمزيّة الدينية لكوكبا هنا. ففي أعالي البلدة، ذات الطقس البارد والأرض الطيّبة من ماء وهواء وخيرات، مزار سيّدة حرمون. تمثالٌ للسيّدة مريم وإبنها يطلان على جبل حرمون، الذي ورد ذكره في العهد القديم مع الأرز اللبناني في سفر يشوع: «إرْتَفَعْتُ كَالأَرْزِ فِي لُبْنَانَ، وَكَالسَّرْوِ فِي جِبَالِ حَرْمُونَ».
سيّدة حرمون ترى كل شيء
لا تطل سيّدة حرمون على جبل حرمون فحسب، ذلك الجبل الذي يمتد من بانياس السورية إلى وادي طبرية في فلسطين المحتلّة، والذي يُلقب بجبل الشيخ، لإتخاذه شكل العمامة عندما تغطيه الثلوج. فسيّدة حرمون، تطل أيضاً على كفرشوبا وحلتا والهبارية، وبلدات حدودية أخرى تقصف باستمرار. كذلك تطل على قمم إستحوذت عليها إسرائيل، تقصف منها، ويُقصف عليها.
كوكبا فتحت أبوابها للنازحين
أيام قليلة بعد الثامن من أكتوبر، تحديداً في 12 تشرين الأول، إفتتحت بلدة كوكبا مركزين لإستقبال النازحين من القرى المجاورة التي تُقصف باستمرار. الأول هو مركز للنادي الثقافي يستقبل عائلات من بلدة حلتا، والثاني تابع لجميعة السلام الخيرية يستقبل عائلات من كفرشوبا.
عشرات النازحين، أتوا إلى كوكبا، حيث التعداد السكاني فيها اليوم يبلغ 250 مواطنا فقط، فيما يرتفع في الصيف إلى 650. هي قرية صغيرة بسكانها، «كبيرة بقلبها» كما يصفها النازحون الذين حاورت «بيروت تايم» بعضاً منهم، خلال زيارة البلدة، لينقلوا عبرنا الكثير من التقدير لعمل إجتماعي وأهلي وبلدي حلَّ مكان الدولة الغائبة.
تقول إحدى النازحات لنا: «لم نرَ أي اهتمام من الدولة، بل البلدية في كوكبا تقوم بتوفير كل ما تستطيع». وتُضيف، «مع بداية النزوح أتى نائب إلينا وسأل عن أحوالنا وقال أنَّه سيعود بعد أسبوع، ولم نره».
مجلس الجنوب، زار البلدة والتقى النازحين وإجتمع مع البلدية وملأ إستمارات إلّا أنَّه إلى اليوم لم يقدّم شيئاً.
تحكي السيدة الآتية وعائلتها من حلتا هرباً من القصف، عن قدر الجنوبيين، وعن عدم رغبتها في عيش تجربة الحرب من جديد. واصفة هول المعاناة والحروب التي شهدتها منذ ولادتها في العام 1958. تقول، «حضرت حرب الـ67، والحرب الأهلية اللبنانية التي إستمرت لـ15 عاماً، وحرب عون عام 1990، وحرب تموز 2006، واليوم».
تتمنى ألا يعيش اللبنانيين ما يعيشه الجنوب. وتحكي عن الشقاء في هذه المرحلة، التي تصفها بأنّها أصعب من حرب العام 2006.
حدّثتنا «أم أحمد» وهو إسم مستعار لها، عن معاناتها الشخصية التي تزيد هول الأزمة. شاركت معنا خوفها على ولديها اللذين يعانيان من الصمم والبكم. قائلة، «لا يستطيعان سماع صوت القصف». وتختم بالقول، أتمنى ألا نُجبر على النزوح إلى مكان آخر إن توسعت الحرب أكثر، فليس لنا مكان آخر».
إلى ذلك، يُحدثّنا المربي محمد قصب الذي نزح وعائلته من كفرشوبا إلى كوكبا. هو الإنسان الذي أفنى حياته في مهنة التعليم، ليصل إلى زمن لا يستطيع فيه إستئجار منزل ينزح إليه، ويأويه وعائلته بسبب التعويض المتدني. يتساءل قصب، ويفكر لبعض الوقت، قبل الردّ على سؤالنا ما إذا كان «الجنوب» نعمة أو نقمة، ومن ثم يقول: «نقمة، و نحن في المناطق الحدودية، لن نرتاح أبدا طالما القضية الفلسطينية لم تُحل ولا حل لإنشاء دولة فلسطينيّة، ولا سلام، ونحن في لبنان نتحمّل العبء الكبير نيابة عن العالم العربي كلّه».
يضيف قصب لـ«بيروت تايم»، «رغم ذلك لن نترك أرضنا، نتشبّث بها، فالبيت عزيز وأرضنا غالية علينا ولا نملك سواها، فيها ذكريات وأصدقاء وآباء دُفنوا فيها».
و من على شرفة البيت الذي نزح إليه، يضيف، «أرى بلدتي من الشرفة، وكلما أنظر إلى كفرشوبا أشعر براحة نفسية، رغم القصف».
ويختم بالقول، «ليس باليد حيلة، كفانا، ولم نعد نستطيع التحمّل».
أطفال النازحين كأطفال كوكبا
أطفال النازحين، يتساوون مع أطفال البلدة، فالطرفان خسرا العام الدراسي الحالي، الذي كان، في بعض المدارس الخاصة، قد بدأ قبل السابع من أكتوبر بأيام قليلة، وإنتهى حضورياً مع أول ضربة لـ«حزب الله» على إسرائيل في الثامن من أكتوبر.
منذ بدء النزوح إلى كوكبا أواخر أكتوبر 2023، بَقيَ أطفال النازحين محرومين من التعليم على مدار شهر ونصف، قبل أن تُفتح لهم مدرسة رسمية في كفرشوبا، وفَّرت لهم حصص التعليم «عن بعد»، بما إستطاعوا إليه سبيل.
أهالي البلدة، كما النازحين، يشتكون من التعليم «عن بعد» وخسارة أولادهم سنة كاملة بسبب الحرب القائمة. تقول ماغي بطرس أبو نقول، إبنة كوكبا التي تملك وزوجها «باتيسيري» وسط البلدة، أنَّ المشكلة الأكبر اليوم هي في التعليم. «أولادي لم يذهبوا ولا يوم واحد إلى المدرسة هذا العام، وتكلفة توفير متطلبات حضور الحصص التي تُجرى إلكترونياً عالية، ولا شبكة جيّدة للإنترنت».
تُضيف، «أُخصص وقتاً يومياً لتعليم أبنائي ومتابعة دروسهم التي تُجرى عن بعد، أحاول تغطية النقص الناتج عن توقّف التعليم الحضوري، وربما تكون مشكلة التعليم من أكبر المشاكل التي نعاني منها في هذه الفترة».
تُضيف ماغي التي تراجعت نسبة المبيعات في محلها، مصدر دخلها الأساسي، إلى مستويات منحدرة، أنَّهم باقون في كوكبا مهما حصل. «نسمع أصوات القصف كل ليلة، ولا نعرف ما إذا كانت القذيفة ستسقط في بيتنا».
وتقول، «لا نستطيع الذهاب إلى بيروت، فإن انتقلنا للعيش هنالك، كيف لنا أن ندفع مصاريف إيجار البيت، وفواتير الكهرباء والمياه، وأي مهنة نمارس؟، سنبقى هنا حتى ولو كانت النتيجة هي الموت».
أهل كوكبا وكفرشوبا وحلتا والهبارية، كمعظم أبناء القرى الجنوبية، يخافون على أرزاقهم ومستقبلهم، وأولادهم، وتبقى الرسالة المشتركة أنَّهم تعبوا من حروب تأتي إلى أرضهم كل بضع سنوات فتدمّر المنازل، وما إن تُطوى الصفحة، تأتي حرب أخرى!