العصر الذهبي للذهب
العصر الذهبي للذهب
أزمات عقارية وحروب وعقوبات. عدم يقين يلف العالم، ويرفع سعر الذهب، فيما الفيدرالي الأميركي لا يخفض أسعار الفائدة، والمصارف المركزية تعود للذهب لتقليل مخاطر التعرّض للعقوبات.
خسر الذهب دوره الرئيسيّ في النظام المالي العالميّ، يوم فكّ الرئيس الأميركي السابق «ريتشارد نيكسون» ربط الدولار بالذهب، بما عرف بـ «صدمة نيكسون»، لاغياً أحد أبرز بنود نظام «بريتون وودز»، الذي أقرّ نظام ثبات أسعار الصرف مقابل الدولار، وحدّد الدولار بسعر 35 دولاراً مقابل أونصة الذهب، ليتحوّل إلى عملة إحتياط دولي. وإلغاء مفاعيل «بريتون وودز» الذي سمح لسعر الذهب الإرتفاع بحرية في الأسواق العالمية.
وعلى الرغم من ذلك، لا تزال المصارف المركزية تعتمد على الذهب كمخزن للقيمة، وذلك لندرته. لكن الذهب لا يوّلد دخلاً من الفوائد، ليشكل بديلاً خلال الإضطرابات الإقتصادية والدولية، وأكثر جاذبية مقارنةً بالأصول التي تحمل فائدة مثل النقد والأوراق المالية ذات الدخل الثابت.
حالياً، يرتفع سعر الذهب وسعر الفائدة التي يحددها البنك الفدرالي الأميركي، في وقت كانت العلاقة بينهما عكسية، إذ عندما يضعف الدولار، يصبح الذهب أرخص نسبياً لحاملي العملات الأخرى، مما يؤدي إلى زيادة الطلب، والعكس هو الصحيح.
يتحدّد سعر الذهب وتحركاته بناءً على التوقعات التضخمية، وأسعار الفائدة الحقيقية، والتشاؤم بشأن ظروف الإقتصاد الكلّي المستقبلية. وكما جميع السلع الأساسية، الذهب مدفوع بالعرض والطلب، وهو العامل الأساسي. وهو يعتبر وسيلة وقائية لمواجهة الظروف الإقتصادية السيئة، إذ يؤدي إرتفاع التضخّم إلى زيادة إهتمام المستثمرين بشراء الذهب، وبالتالي يؤدي إلى إرتفاع سعره، وفي المقابل فإنّ تراجع التضخم أو إنخفاض التوقّعات التضخمية يؤدي إلى نتيجة عكسية.
إنّ مكانة الذهب هي ملجأ أثناء الأزمات، وأنّ العالم قد يعود إلى مرحلة «معيار الذهب»، أي قبل «صدمة نيكسون». تدنى سعر الذهب أمس إلى 2,350 دولاراً للأونصة، بعد أن سجل أعلى مستوياته على مدى سبع دورات متتالية، وعلى أساس سنويّ، ارتفع بنسبة 16.5%، كما ارتفع بأكثر من 15% في الأشهر الثلاثة الماضية، وبرز كأفضل فئة أصول أداءاً منذ بداية عام 2024.
وفي خضم كل التوترات وعدم اليقين السياسي في العالم، تتجه البنوك المركزية إلى شراء الذهب، وفق مذكرة صادرة عن بنك UBS في 9 نيسان. فاشترى بنك الشعب الصيني الذهب للشهر السابع عشر على التوالي في آذار، مضيفاً 160 ألف أوقية ليصل الإحتياطي إلى 72.74 مليون أونصة من الذهب، وفقاً لوكالة «رويترز». ومع قيام الصين ببناء احتياطاتها، فإنّ الطلب يساهم بارتفاع الأسعار، والتي يدعمها المستثمرون المعتادون. ويعتبر الصينيون الذهب بديلاً في ظل أزمة العقارات التي تشهدها البلاد منذ عام 2021، بعد تخلف شركة «إيفرغراند» عن سداد ديونها البالغة أكثر من 300 مليار دولار. كما تعمل البنوك المركزية الأخرى، وخاصة في الهند وتركيا، على زيادة احتياطياتها من الذهب. وتعكس الزيادة السريعة في احتياطات الذهب لدى البنوك المركزية في الأسواق الناشئة الرغبة في التنويع بعيداً عن الدولار، الذي لا يزال يمثل ثلثي احتياطيات البنوك المركزية على مستوى العالم.
يعيش العالم اليوم في حالة من عدم اليقين، في ظلّ الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والحرب الإسرائيلية على غزة والتوترات في منطقة الشرق الأوسط، وخاصةً في البحر الأحمر، إضافة إلى توجّه الناخبين في أكثر من 60 دولة إلى صناديق الإقتراع هذا العام، بما في ذلك الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ويؤكد هذا الإرتفاع على صعوبة التنبؤ الجيوسياسي والإقتصادي حول القيمة المستقرة للذهب. وتفيد التقارير الإخبارية أنّ بعض الدول تحاول خفض احتياطياتها من الدولار الأمريكي، بعد تجميد إحتياطات روسيا من قبل الولايات المتحدة وأوروبا، وتتحوّل إلى إحتياطات الذهب.
كما يشير إرتفاع أسعار الذهب إلى أنّ المستثمرين يتوقعون تخفيضات في أسعار الفائدة من بنك الإحتياطي الفيدرالي الأميركي في أيلول، لكنهم غير متأكدين من احتمالات سحق التضخّم، دون دفع الإقتصاد الأمريكي إلى الركود، المعروف أيضاً باسم «الهبوط الناعم».
وأعلن رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي «جيروم بأول» في تصريح يوم 3 نيسان، أنّ التضخّم يجري في «مسار وعر في بعض الأحيان»، نحو هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 في المئة، وأن تخفيضات أسعار الفائدة لإعادة التوازن إلى الإقتصاد، من المرجح أن تبدأ في وقت لاحق من هذا العام.
بحسب بنك «جي بي مورغان»، من المحتمل أن يكون ارتفاع سعر الذهب بمثابة حماية قصيرة المدى ضدّ المخاطر، ومخزناً موثوقاً للقيمة على المدى الطويل، والأهم من ذلك إعتباره أداة لتنويع مخاطر المحفظة، متوقعاً أن يلحق النموّ الإقتصادي وأسعار الفائدة في الولايات المتحدة، تدريجياً، ببقية العالم، مع تباطؤ زيادة الأجور في سوق العمل، وبدء الإحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة، ومن المرجح أن يبدأ ذلك في النصف الثاني من عام 2024.
يُعد طلب البنوك المركزية على الذهب علامة على تراجع الإعتماد على الدولار، وأنّه لم يعُد خياراً مثالياً على نحو متزايد، بالنسبة للبنوك المركزية التي ترغب في تقليل الإعتماد الإقتصادي على الولايات المتحدة. وتقوم الدول غير المتحالفة مع الولايات المتحدة بتجميع الذهب، لتقليل مخاطر التعرّض للعقوبات، خاصةً بعد قرار مجموعة السبع، تجميد أصول البنك المركزي الروسي، البالغة 300 مليار دولار. ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، ارتفع صافي مشتريات البنوك المركزية من الذهب بشكل ملحوظ.
بحسب الاقتصادي رامي كيوان، لم يخسر الدولار قوّته، وسيبقى الاقتصاد العالميّ يحكمه الدولار لفترة طويلة، ويؤكد "نثق بالله ونثق بالذهب". ويشير إلى أن زيادة القلق وعدم اليقين عالمياً على الصعيد السياسي والاقتصادي والتكنولوجي، أدى إلى إختلال في العلاقة التعارضية بين الذهب والدولار، ويمكن لهذه العلاقة أن تعود في المدى المتوسط أو البعيد. وطالما أن الحروب قائمة، والقلق السياسي قائم، وسعر الفائدة مرتفع، سيبقى الدولار والذهب ملجئين آمنين.
يلفت كيوان إلى أن ثقة المصارف المركزية بالدولار تأتي من غياب البديل عنه، وعدم قدرة أي عملة أخرى على منافس الدولار عالمياً، لكن حكماً لن نعود إلى مرحلة الذهب، أي ما قبل الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من طرح هذا النقاش لعدة سنوات، لم يحدث هذا الامر حتى الان، إذ لا يوجد كمية ذهب كافية ليكون البديل عن الدولار.