تنحوا جانباً

تنحوا جانباً

  • ٠٨ أيار ٢٠٢٤
  • أنطوان الخوري طوق

«تنحَ جانباً فإنّك تحجب عنّي ضوء الشمس» (ديوجين الإغريقي للإسكندر الكبير)

 

هل القرف من السياسة والسياسيين هو حالة عامة عابرة للبلدان والمجتمعات أم هو قرف بلدي محليّ صرف؟ لم نشعر يوماً بمثل هذا القرف من السياسيين في لبنان حتى في أشدّ الأزمات والحروب التي خيضت وتخاض بإسمنا وعلى جثثنا.

يكون القرف عادة من رائحة فم كريهة، أو ليست كذلك رائحة أفواه الغالبية من سياسيينا ومن الذين تولوا ويتولون رعاية شؤوننا، روائح أفواههم تُشعر «باللعيان»، كلّها كراهية وحقد وضغينة وكذب وإدعاء، وإستقواء، واستكبار، كلّها كذب وافتراء ورهانات خاسرة، إذ لا يخرج من أفواههم إلّا التكفير والتخوين ونبش القبور كلّما نطق أحدٌ بالحق أو خالف قائد أو زعيم برأي أو وجهة نظر.

ويكون القرف عادة من منظر قبيح مقزّز، فأي منظر أشدّ قبحاً وقرفاً من المشهد السياسي والإقتصادي اللبناني؟

هو قبيح ومقرف في تغييبه لهموم الناس وحاجاتهم وأوجاعهم، هو مقرف في هذا الإتقان لفنون النكايات والمزايدات والمماحكات، إذ حولونا إلى مشاريع موتى، إلى مشاريع متسولين ذليلين، إلى مشاريع عاطلين عن العمل، لقد حولونا إلى مشاريع مهاجرين، إذ توزّع أهلنا وأولادنا وأصدقاؤنا وجيراننا في كلّ أنحاء الأرض بحثاً عن كرامة وبحثاً عن أمان وشبع. ولعل الأكثر قرفاً من كلّ ذلك أنّهم وقحون لا يرِف لهم جفن لمشاهد التعاسة والفقر، إنّهم وقحون لا يخجلون منا في إطلالاتهم المتلفزة إذ يتشدّقون ويرفعون الصوت ويهدّدون بحروب أهلية، لا يخجلون (جئمين) فقد خنقتنا روائح صفقاتهم وعمولاتهم، وخنقتنا روائح نفاياتهم التي تحتل المدن والشواطىء والوديان وشوارع القرى «طلعت ريحتكم».

إنّهم يكررون أنفسهم حتى اعتكف كثيرون عن سماع نشرات محلية أو برامج حوارية.

معنى المقرف لغةً واصطلاحاً: كريه، مثير للإشمئزاز، مثير للملل، إنّه الملل من تكرار نفس الوجوه كتفاعيل البحر الطويل:

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن                فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

إنّه الملل من تكرار نفس الألسن الخشبية، نفس الشعارات والحجج ونفس التعدّي على عقولنا ونفس التزوير للمصطلحات حتى بتنا نقرف من كلمات مثل الديمقراطية والوحدة الوطنية والعيش المشترك وحقوق الإنسان، إنّه أمر مملٌ، حتى بتنا نتساءل: كيف يستطيع الكتاب الصحفيون تحرير المقالات وكتابة التعليقات على أحداث وأحاديث تتكرّر يومياً. إنّه أمرٌ ممل حتى القرف هذا التشويه للتاريخ وللوقائع التي كنا شهوداً عليها، وأمرٌ مقرف إعتبارنا أغبياء وفاقدي الذاكرة علماً أنّنا نعرف جيداً المسرح والممثلين واللاعبين والوجوه المستعارة والألعاب الممجوجة. يكررون أنفسهم ويكابرون ولا يتراجعون ولا يعيدون النظر بتجاربهم ونتائج أفعالهم حتى بتنا آسفين على أنفسنا لوجودنا في زمنهم وزمن الورثة من أقربائهم.

سياسيونا كائنات مكتئبة، كائنات خائفة، ينشرون الحزن والخوف أينما وجدوا. حتى بتنا بمعيتهم نشتهي ذات يوم سماع خبر مفرح عن بلادنا وأحوالنا أو فرج قريب.

إنّهم مضجرون حتى أقصى درجات اليأس والكسل. مقرف هذا التكرار إلى درجة العجز واليأس والكفر.

نحن رهائن مخطوفون وخاطفونا لا يملكون ذرة من الحياء وإلّا ما معنى هذه الوفود الأجنبية التي تضع لهم مواصفات الحاكم وتدعوهم في زيارات مكرّرة ومملة لانتخاب رئيس (والقمحة عند الطحان)، فالتحايل شطارة ودهاء.

ويكون القرف عادة من طبخة «محمضة» مضى عليها زمن طويل لقد حّمضت وفسدت كراسيهم ومواقعهم، وكّل طبخاتهم السياشية والإقتصادية طعمها فاسد ومؤذٍ، ولا تخرج من مطابخهم إلّا الفتن والسموم. فأي أذى أشد ّمن طبخة سارقي جنى الناس وأعمارهم ومدخراتهم. وأي أذى أشدّ من المشهد الاقتصادي، من الجوع وإقتصار الأحلام على الرغيف والدواء والكتاب. وأي أذى أشدّ من أن تصبح البلاد مأوى للعجزة بعد أن هجرها شبابها وحلّ مكانهم كلّ عابري السبيل. مقرفة هذه المائدة وهذه الدعوات للجياع للموت في سبيل أهل السياسة خدمة لطموحاتهم ومشاريعهم وتبعيتهم.

مقرف هذا التقاعس عن تسليح الجيش، وانتظام الجياع في جيوش إلكترونية تمّ تسليحهم بكل معدّات الإنقسام والحقد والكراهية والشتائم.

لقد ارتضينا نحن الناجين من الموت بالصدفة أن يتمّ تسليمنا من جديد إلى جلاّدينا.
لقد ارتضينا أن نكون ضحايا «الفريش» دولار والسوق السوداء وفجعنة المحتكرين.
لقد ارتضينا أن نُختير ونموت وحدنا بعيداً عن أبنائنا وبناتنا.

لقد ارتضينا حكم القبائل والمذاهب والطوائف وارتضينا أن يسرق المسؤولون عنا لقمة عيشنا.

لقد ارتضينا إحتراف السياسيين عندنا الزنى السياسي على أرصفة هذه البلاد. 

لقدارتضينا  قفزهم مثل القرود من شجرة إلى شجرة منتجين شتى أنواع الأزمات.

لقد ارتضينا إدعاءهم الجديّة والرصانة والتخويف من الآخر المختلف لتأبيد السيطرة علينا.
لقد ارتضينا صناعتهم للموت اليومي إما غيلة وإما إنتحاراً بالعجز واليأس وإما إنقياداً للخارج .
أما اكتفيتم؟ لقد «ملأتم قلوبنا قيحاً وشحنتم صدورنا غيظاً»
سنحمل مصباح «ديوجين» في عزّ النهار بحثاً عن رجل فاضل بينكم. وخلاصة القول،
حلوا عنّا.. تنحوا جانباً، فإنّكم تحجبون عنا ضوء الشمس!