موارنة تركيا والبستاني... هل نسِيهم التاريخ؟
موارنة تركيا والبستاني... هل نسِيهم التاريخ؟
يمكن القول إنّ معاناة الموارنة، أكان في لبنان، أو في تركيا، أو في أي مكان آخر، ليست وليدة اليوم، ولا ترتبط بخسارة الأراضي والأملاك وحسب، فقد تكون مأساتهم الكبرى عائدة إلى غياب النخب المارونية بشكل أساسي.
لا يُحكى عن سليمان البستاني إلّا عرضاً في لبنان، وفي الكتب التاريخية الحديثة، برغم أنّ الرجل كان وزيراً للزراعة، ليس في لبنان بل في السلطنة العثمانية، وله تجربة مهمة في مجال الإصلاح الزراعي، دون أن ننسى أنّه مثّل الموارنة في الحكومة العثمانية عام 1913، وعمل في الترجمة والنشر والتعليم.
والحال أنّ البستاني، إبن الشوف في جبل لبنان، مثّل طائفته غير المنتشرة حصراً في مسقط رأسه، إذ بات لها امتدادات تخطت حدود لبنان وبلاد الشام، واستوطنت مدن مرسين وطرسوس وأضنة التركية، منذ القرن التاسع عشر على أقل تقدير.
وإن كان المفكّر شارل مالك لاحظ يوماً أنّ الموارنة وحدهم، دون سواهم من الطوائف المسيحية الأخرى، قد زادوا إنتشاراً وحضوراً خارج «الموطن النواة» في شمال لبنان، واستملكوا أرضاً وباتوا حاضرين في فلسطين وقبرص ومصر، إلّا أنّ المفكر اللبناني الأشهر قد تغافل عن نزوح الموارنة شمالاً ووصولهم إلى عمق السلطنة العثمانية.
وكما هو الحال في أغلب الأوقات، يرتبط النزوح السكاني بالظروف الإقتصادية بشكل أساسي. فهؤلاء الموارنة الذين تركوا الساحل اللبناني في بداية القرن التاسع عشر، سكنوا المدن البحرية التركية، لعملهم في مجال النقل البحري وتجارة القطن.
وتشير بعض الكتب والأبحاث، إلى أنّ الوجود الماروني يعود إلى العام 1827 على الأقل، حين سكنوا أنطاكيا ومرسين وأضنة وطرسوس جنوب الأناضول، بحسب الكاتب بطرس لبكي، وعاشوا بنوع مقبول من الهناء وتمتعوا بحرية دينية، في ظل إعتراف السلطنة بهم كمِلّة قائمة بذاتها، إلّا أنّ سقوط السلطنة العثمانية وقيام الجمهورية التركية، غيّرا أحوالهم.
واللافت في تجربة موارنة تركيا، هو أنّ ظروفهم كانت أفضل في ظل حكم السلطنة العثمانية «الإسلامية»، بالمقارنة مع حياتهم في ظل الجمهورية التركية «العلمانية» المؤسَّسة عام 1923. ففي ظل الأول كانوا ملِة تتمتع بحقوق دينية معترف بها، ويمثلهم وزير في الحكومة وبعض المستشارين في بلاط الحكام، بينما أصبحوا على هامش الحياة السياسية مع تطبيق العلمانية في الجمهورية التركية.
وكحال غيرها من الجماعات الدينية، شكلت معاهدة «لوزان» الموقعة عام 1923، الورقة الرسمية التي ترعى حقوق بعض الأقليات في الجمهورية الناشئة، وهي اعترفت بثلاثٍ فقط: الأقلية اليونانية الأرثوذكسية، الأقلية الأرمنية، والأقلية اليهودية. أما بقية الطوائف والجماعات والمِلل، فلم يتمّ الإعتراف بها بتاتاً، لذا أصبحت «خارجة عن القانون» ولا حقوق خاصة لها.
وعليه، عانى الموارنة من عدم الإعتراف بهم كأقلية، كما قامت الجمهورية «العلمانية» بمصادرة أراضي الموارنة وكنائسهم وأديرتهم وحتى مقابرهم. وعام 1926 أنهت الدولة مصادرة الأراضي الوقفية التابعة للموارنة، «فنُزع جرس كنيسة طرسوس وحُوِّلت إلى مركز لمحافظة المدينة، كما تمّ تسليم معظم أملاك الموارنة في مرسين إلى وزارة التربية، فيما قامت السلطات المحلية بتحويل كنيسة القديس جرجس في المدينة إلى جامع»، بحسب المؤرخ التركي أويغور أونجور.
مع مصادرة أوقافهم والتضييق عليهم، هاجر معظم موارنة تركيا إلى لبنان، فيما عانى من بقي منهم من تضييق إجتماعي وإقتصادي، جعل الحياة خطرة في الجمهورية، إلّا أنّهم حافظوا على إيمانهم عبر «التعاون الديني» مع الأقليات المسيحية الأخرى، وخصوصاً مع الآباء الكبوشيين (رهبنة كاثوليكيّة) الذين اهتموا بحياة الموارنة الرعوية. أما الآن، فلم يبقَ إلّا بضع مئات من الموارنة في كلّ من مدينة مرسين وطرسوس، فيما تلاشت الأقلية المارونية في مدينة أضنة كلياً.
حاول البطريرك الماروني فعل شيء ما لموارنة تركيا، إلّا أنّ أعماله لم تلقَ صدى إيجابياً على مسامع السلطات التركية الحالية. وخلال زيارته تركيا عام 2012، قدّم البطريرك مار بشارة بطرس الراعي سلسلة من المطالب للسلطات، تتعلق بتسهيل حياة الموارنة وإعادة الإعتبار لأملاكهم الكنسية وتسليمها للطائفة. كما أعلن رئيس أساقفة أبرشية حلب المارونية السابق يوسف أنيس أبي عاد، الموكّل بهذا الملف، أنّ الكنيسة تحاول إستعادة 13 ملكية عائدة لها في تركيا، وأنّها قدّمت طلبات إلى السفارة التركية في بيروت لاسترداد ملكيات مدارس وأراضٍ وكنائس ومقابر، إنّما من دون نتيجة.
يمكن القول إنّ معاناة الموارنة أكان في لبنان، أو في تركيا، أو في أي مكان آخر، ليست وليدة اليوم، ولا ترتبط بخسارة الأراضي والأملاك وحسب، فقد تكون مأساتهم الكبرى عائدة إلى غياب النخب المارونية بشكل أساسي. وربما لا يحتاج الموارنة فعلاً إلى المزيد من الأملاك الوقفية أكان في تركيا أم غيرها، ولو كانت من حقهم الطبيعي، بل إلى نخب جدية متنوّرة تنتشل الجماعة من واقعها الصعب.
بالعودة إلى البستاني، الذي كان وزيراً للزراعة في السلطنة العثمانية، وهو أيضاً شخصية أدبية وسياسية لبنانية بارزة، فقد اشتهر الرجل بترجمة الألياذة لهوميروس اليوناني، التي استغرقت منه 16 سنة من العمل. كما كان تلميذ المعلم بطرس البستاني، وشارك بتحرير أعداد «دائرة المعارف» التي تربت على قراءتها النخب المارونية واللبنانية والعربية.
الرجل النخبوي والموسوعي كان ملماً بعلوم الفيزياء والكيمياء والطب، كما عمل في مجال السياسة والأدب والترجمة والنضال السياسي.
هاتوا أعطونا مارونياً نخبوياً واحداً اليوم بمصاف البستاني، قادراً على ترك أثر حقيقي وعميق في قلب الطائفة وانتشالها من واقعها الأليم ومعاناتها المستمرّة!