فلنرجع إلى العدّ يا سيّد…
فلنرجع إلى العدّ يا سيّد…
غالباً ما إستُعمل التهديد بالعودة الى العدّ وتغليب العدد لتخويف المسيحيين، بهدف إسكاتهم وإخضاعهم عند المفاصل التاريخية الكبرى التي تتناول الخيارات السياسية والوطنية المصيرية.
«إمّا أن نرجع الى العدّ، إمّا كلّ واحد يعرف حجمه ويتكلّم عمّن يمثل وبما يمثل» السيّد حسن نصرالله في ٢٨/٥/ ٢٠٢٤
في كلّ مرة ينطق أحد بالحقّ داعياً لتفادي أي خلل دستوري ووطني قد يناقض ميثاق العيش المشترك والمبادئ التأسيسية للكيان اللبناني، وفي كلّ مرّة ينطق أحد بالحق منادياً بسيادة الدولة على أراضيها وحدودها ومرافقها رفضاً لكلّ أنواع الإحتلالات والوصايات، ومنادياً بحقّ اللبنانيين بالعيش الكريم وبالعيش في سلام، وبحقّهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم دون أيّ إستتباع لأي خارج، وفي كلّ مرّة ينطق أحد بالحقّ داعياً إلى الإصلاح الجذري ومطالباً بالمساءلة والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، يأتي مَن يقمع ويرّهب ويكفّر ويتّهم بالعمالة والخيانة ، ويهدّد بالأكثريات والأقليات الطائفية وبالعودة الى العدّ في ظلّ الخلل الديموغرافي نتيجة التهجير والهجرة في مخالفة فجّة لما ينصّ عليه الدستور، الذي توافق عليه اللبنانيون بعد حروب طاحنة أتت على الأرواح والأرزاق ومستقبل الأجيال.
كم يُشعِر بالمهانة إختزال التاريخ الحضاري اللبناني بأعداد مذهبية وطائفية، وكم يُشعِر بالإحباط إختزال إنجازات اللبنانيين في حقول العلم والمعرفة والثقافة والأدب والفنون بعدّاد مذهبي ماضوي صدىء خارج الواقع والعصر والحداثة، عاملاً على فرز اللبنانيين الى مذاهب وقبائل ومناطق وأكثريات وأقليات، وكأنّ الداعي الى العدّ وعبر التلويح بفائض القوة يكتب تاريخه الخاص به الذي لا يشبه إلّا نفسه في إقصاء متعمّد لباقي اللبنانيين، وعبر إفتعال تواريخ تأسيسية جديدة للكيان اللبناني تبقى رهينة الظروف المتقلبة التي أوجدتها، فيبدو غريباً عن هذا التاريخ المشرق.
وكم يُشعِر بالأسى ما آلت إليه أحوال هذا البلد الجميل من تسخيف للتنوّع اللبناني عبر تغليب الأعداد المذهبية، بحثاً عن إنتصارات وهمية يكون الغالب فيها هو الخاسر الأكبر، وعن مخارج لمشاريع سياسية مأزومة ومستحيلة عبر الإستقواء بالخارج على أهل الداخل.
غالباً ما إستُعمل التهديد بالعودة الى العدّ وتغليب العدد لتخويف المسيحيين، بهدف إسكاتهم وإخضاعهم عند المفاصل التاريخية الكبرى التي تتناول الخيارات السياسية والوطنية المصيرية. يتذكر اللبنانيون كيف إستُخدم شعار إلغاء الطائفية السياسية عند المطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان، وكيف إستُخدم التهديد بجعل لبنان دائرة إنتخابية واحدة، بهدف القضاء على الصوت الإعتراضي في مواجهة قضم وبلع لبنان وإلغاء معنى وجوده، وذلك عبر إغراق هذا الصوت في الأكثريات العددية الطائفية، علماً أنّ التهديد بإلغاء الطائفية السياسية لم يكن الهدف منه علمنة النظام اللبناني أو إقامة الدولة المدنية والتي في ظروف معيّنة تبنّى الدعوة إليها غلاة الطائفيين بهدف تأبيد السيطرة على الدولة ومقاليد السلطة.
وكيف يستخدم العدد اليوم جواباً على رفض أكثرية اللبنانيين لزجّهم في أتون حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
لقد سئم اللبنانيون خطابات الإستقواء والكراهية والمماحكات والتذاكي في استخدام المصطلحات واللعب على التوازنات الوطنية، وإذا كان لا بدّ من الدخول في زجليات الأكثريات والأقليات، فإنّ أكثرية اللبنانيين كانت قد خرجت في ١٤ آذار و١٧ تشرين في مواجهة الممنوع والمخيف، إعتراضاً ورفضاً لأهل السياسة وثقافة الفساد والإستتباع والتفرّد في تقرير مصائر اللبنانيين حرباً وسلماً، وقد ظنّ اللبنانيون أنّ مقولة الغبن والخوف قد ولّت الى غير رجعة، وإذا بهم يجدون أنفسهم رهائن الرجوع الى العدّ والدعوة الى حوار مفخخ لتطيير المؤسسات الدستورية.
وإذا كان لا بدّ من الرجوع الى العدّ فإنّ المجال هنا لا يتّسع لتعداد المطابع والمجامع اللغوية والجرائد والمجلات التي أسّسها لبنانيون في لبنان ومصر منذ بدايات القرن التاسع عشر كما لا يتّسع لتعداد المدارس والجامعات والمكتبات ودواوين الشعراء وآثار الأدباء والحركات والمنتديات الثقافية والأعمال الموسيقية وفنون الرسم والنحت والمسرح والتي كانت كلها في أساس بزوغ عصر الأنوار والنهضة العربية ولعلّ التّحدي الأكبر اليوم، هو في إستعادة اللبنانيين لا سيما المسيحيين منهم لهذا الدور النهضوي.
وإذا كان لا بدّ من الرجوع إلى العدّ فلنبدأ بالشيخ ناصيف اليازجي وإبنه إبراهيم اليازجي (صاحب قصيدة هبوا واستفيقوا أيّها العرب)،ونجيب العازوري(صاحب يقظة الأمة العربية في الأقاليم الآسيوية في مقاربة للخطر الصهيوني وهو من مواليد ١٨٧٣)، والمعلم بطرس البستاني (دائرة المعارف وجريدة نفير سوريا)، وسليمان البستاني (تعريب الإلياذة)، وجرجي زيدان (مجلة الهلال)، وروز اليوسف (مجلة روز اليوسف)، وفارس نمر ويعقوب صروف (الأهرام والمقطم)، وأنطوان الجميل (المحروسة)، وأحمد فارس الشدياق(الساق على الساق)، وجورج أبيض، ومارون النقاش (رائدي المسرح)، وفرح أنطون (مجلة الجامعة وفلسفة إبن رشد والداعي لفصل الدين عن الدولة)، وخليل الخوري (جريدة حديقة الأخبار ١٨٥٨)، وداوود عمّون ويوسف السودا (الإتحاد اللبناني)، وشبلي الشميل (فلسفة النشوء والإرتقاء) ، ومي زيادة، وسلمى صائغ، وحبوبة حداد، وجوليا طعمة، وإميلي فارس إبراهيم، وهدى شعراوي، وسلوى نصّار (عالمة الفيزياء)، وميشال زكور (المعرض)، ونعوم مكرزل (الهدى)، وجبران خليل جبران، وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة ومارون عبود وإيليا أبو ماضي والياس أبو شبكة وخليل كنعان وفؤاد حبيش(دار ومجلة المكشوف)، وميشال شيحا، وشارل مالك، وعيسى اسكندر المعلوف، والبطريرك الدويهي (تاريخ الأزمنة)، والبطريرك الحويك (لبنان الكبير)، وسعيد عقل.
والمطران جرمانوس فرحات (الغراماتيك)، وداوود وشارل قرم، وفؤاد الشمالي، وأنطون سعادة، ويوسف إبراهيم يزبك، وأنطون تابت، ورئيف خوري، وأنيس فريحة، وسلام الراسي، وسليم خياطة، وأمين معلوف، وإدمون نعيم، وإدمون رباط، وكمال الصليبي، وخليل حاوي، وفؤاد أفرام البستاني، ومايكل دبغي، وأنسي الحاج، وغسان التويني، وفؤاد شهاب، والياس سركيس، وفؤاد بطرس، وكمال جنبلاط، وكامل مروة، والسيّد هاني فحص، والسيّد محمد حسن الأمين، والشيخ عبدالله العلايلي، وحسين مروة، وفرج الله الحلو، وجورج حاوي، وسمير قصير، وسمير فرنجية، ونسيب لحود، وحبيب صادق، ومهدي عامل، ومحمد شطح، وريمون جبارة، ومنير أبو دبس، ويعقوب الشدراوي، وزياد الرحباني، ومارسيل خليفة، ومارون بغدادي، ووليد غلمية…
وغيرهم كثيرون من المعاصرين، رجالاً ونساء، من المبدعين من الأطباء، والمهندسين، ورجال القانون، والصحفيين، والرسامين والنحاتين والشعراء والأدباء. والسينمائيين،
والمؤرخين والمبتكرين، ومصممي الأزياء، والناشطين البيئيين.. ولا يتسع المقال لأكثر من ذلك.
هؤلاء هم قوة لبنان الحقيقية، ولا يمكن أسرهم في أعداد طائفية بعد أن عمّت خيراتهم كلّ الشعوب العربية. فالكثرة والتشابه هما للرمال ولعلّ أفضل ردّ على دعوة العدّ المذهبي هو التشبّث بالتنوّع اللبناني ورفض منطق الدويلات ودعوات الإنفصال ورهن البلاد لمصالح الخارج.