تصحّر البيانات: تحدٍّ لبناني يهدّد المستقبل

تصحّر البيانات: تحدٍّ لبناني يهدّد المستقبل

  • ١٨ حزيران ٢٠٢٤
  • شربل فخري

إنّ تصحّر البيانات في لبنان ليس مجرد إزعاج أو تفصيل في الوقت الحاضر؛ بل هي مشكلة خطيرة تعيق التقدم الحالي وتُهدّد التنمية المستقبلية. من دون جمع البيانات وتحليلها بشكل قوي، كيف يمكن للبنان رسم مسار نحو مستقبل أكثر إزدهارًا واستقرارًا؟

عندما تفكر في لبنان، ما هو أول ما يخطر ببالك؟ المشاكل والإضطرابات   لكن  هل هي  قدر محتوم، وما كُتب قد كُتب، أو فكّر كيف تُصلح المشكلة، وتمنع بلدك من الوقوع في واحدة تلو الأخرى، وتخلق فرصًا؟.  ففي عالم اليوم، وجهتك يجب أن تكون البيانات، تمامًا كما تجمع الهواتف المحمولة الكثير من البيانات من الأفراد، كذلك تفعل الدول أيضًا، سواء لجمع إحصائيات عادية أو لهدف الحصول على بيانات تفصيلية لمشاريع متقدمة. في جميع الحالات، يتم تخزين هذه البيانات لتحليلها، مما يساعد في إنشاء تقارير، ورؤى، وتخطيط للمستقبل  والأهم من ذلك، إتخاذ قرارات أفضل، من حيث تخطيط السياسات، وتقييم البرامج، وتخصيص الموارد.
 ويُقلل غياب البيانات من جاذبية الاستثمار الأجنبي والمحلي، حيث لا توجد معلومات كافية عن بيئة الأعمال والفرص المتاحة، ويعرقل تحفيز الإبتكار، والبحث العلمي في غياب بيانات دقيقة عن إحتياجات المجتمع وتوجهاته. كما يؤثر غياب البيانات على جودة الدراسات الأكاديمية والبحوث العلمية، حيث لا توجد معلومات كافية لدعم النتائج وتحليلها. فضلاً عن عرقلة  المساءلة ومكافحة الفساد إذ لا معلومات متاحة للتحقّق من صحتها.

لبنان يعاني من أزمات خطيرة، ومنها الأخطر هي نقص البيانات.  فلبنان يفتقر إلى بيانات مركزية وإلى هيئة لحماية البيانات، من حيث التزام معايير الشفافية، الموثوقية، الإستقلالية، الأمان والخصوصية، والتوافر والوصول.  أما الجهة الوحيدة المنوط بها هذا الدور فهي وزارة الإقتصاد والتجارة، والتي تُعنى بمنح التصاريح والتراخيص لمعالجة البيانات الشخصية عند الضرورة بموجب القانون 
 (DlaPiperDataProtection).

وإضافة لهذا التقصير لقد أثّرت الأزمة الإقتصادية والمالية بشدة على جهود جمع البيانات، والتي كانت متعثرة أصلاً لأسباب كثيرة . ويُسلط البنك الدولي الضوء على الأزمات المتراكمة التي تؤثر على لبنان، مما يُعقد جهود جمع البيانات الدقيقة والآنية حول قضايا حيوية مثل الفقر والتوظيف (World Bank).  بالإضافة إلى ذلك، دمرت الأزمة المالية الثقة بين الشعب والقطاع المصرفي، مما أدى إلى تحوّل لبنان إلى إقتصاد نقدي (الكاش).  ووفقًا للبنك الدولي، لقد تمّ تقدير حجم الإقتصاد النقدي في لبنان بنحو 9.86 مليار دولار في عام 2022، أي ما يعادل 45.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي.  وهذا الاعتماد على المعاملات النقدية يُضعف فعالية السياسات المالية وجمع الضرائب والسياسات النقدية.  كما يُزيد التحول نحو الإقتصاد النقدي من المخاطر المتعلقة بغسل الأموال والتهرّب الضريبي، مما يُقلل من الإستقرار المالي والتقدم الإقتصادي (Nowlebanon).  وتؤدي هذه العوامل إلى مزيد من المعاملات غير القابلة للتتبع، مما يعني فقدان القدرة على التنبؤ بدقة بالنمو الإقتصادي، مما يجعل لبنان وجهة أقل جاذبية للمستثمرين المحليين والأجانب، ويؤثر على النمو الإقتصادي والتنمية على المدى الطويل.

في غياب أي جهة رسمية مسؤولة عن جمع البيانات، تعمل المنظمات على هذا الأمر خدمة للبرامج الخاصة بها.  وتلعب المنظمات الدولية، مثل المنظمة الدولية للهجرة (IOM)  دورًا حاسمًا في جمع البيانات، خاصة فيما يتعلق بالهجرة والإحتياجات الإنسانية،  تساعد جهود المنظمة الدولية للهجرة في معالجة الاحتياجات الفورية والمساهمة في إنشاء مشاريع فعالة وواقعية.  ومع ذلك، فإن عدم وجود مثل هذه البيانات المهمة داخل كيان حكومي يُعد خسارة كبيرة، مما يؤثر على خطط تقييم الأفراد الضعفاء وتحليل مشكلة اللاجئين والوقائع الحالية المثيرة للقلق تثبت ذلك.  فكلما قلّت البيانات التي تمتلكها الحكومة،  كلّما قلّت فعالية مشاريعها، حيث تؤثر البيانات على الميزانية والإستراتيجية لأي مشكلة أو مشروع (IOM Crisis Response Platform).

والأكثر إشكالية وجود فجوة كبيرة في جهود جمع البيانات بين القطاعين العام والخاص.  بينما تحافظ بعض الكيانات الخاصة مثل الجامعات والمنظمات على قاعدة   بيانات قوية،  فيما غالبًا ما تكون بيانات القطاع العام قديمة أو غير مكتملة وتفتقد الى الحماية وتقنية التشفير العالية لمنع الوصول الى بيانات غير مصرّح بها وهذا ما تعرضت له بعض الإدارات مؤخراً من قرصنة وتعدٍ على الخصوصية.  على سبيل المثال، فيما يخص التحديث في البيانات إذا أردنا البحث عن إحصائيات  لمرضى السرطان في لبنان، فإنّ أحدث بيانات على موقع وزارة الصحة العامة تعود الى العام ٢٠١٦ 
(National Cancer Registry). 
 إنّ غياب بيانات دقيقة وحديثة يجعل إتخاذ القرارات الحكومية أقل فعالية وسرعة تنظيمية، إذ إنّ معرفة عدد مرضى السرطان الحالي، يساعد في التنبؤ كيف ستتجه الحالات الجديدة، وكيفية التعامل معها، مما قد يساعد في التخطيط لتقوية البنية التحتية الطبية اللازمة لعلاج الحالات القادمة أو إكتشاف أسباب تقلبات الإتجاه العام لهذه الحالات.

 وأيضاً يقلّل نقص  البيانات الموثوقة من قدرة لبنان على تطوير سياسات مدروسة للإنتعاش الإقتصادي والخدمات  الإجتماعية وتطوير البنية التحتية. كما أنّ البيانات الدقيقة ضرورية لتحديد الإحتياجات وتخصيص الموارد وقياس التقدم، لكن نظام البيانات الحالي في لبنان لا يدعم هذه الأنشطة بشكل كافٍ إطلاقا.ً

في الختام، فإنّ صحراء البيانات في لبنان ليست مجرد إزعاج أو تفصيل في الوقت الحاضر؛ بل هي مشكلة خطيرة تعيق التقدم الحالي وتُهدّد التنمية المستقبلية.  من دون جمع البيانات وتحليلها بشكل قوي، كيف يمكن للبنان رسم مسار نحو مستقبل أكثر إزدهارًا واستقرارًا؟